الحركة الثانية
((من أيّ نجوم أتينا لنلتقي أخيراً؟))
نيتشه لحظة رأى ((لو))أوّل مرة
كانت قد مرّت بضعة أسابيع على عودتها من باريس حين وصلتها دعوة لإقامة حفلٍ في القاهرة. راحت تفاوض والدتها للسماح لها بالسفر إلى مصر، وكأنها تفاوضها على قضيّة الشرق الأوسط. ففي القاهرة ليس لها أهل كما في باريس، وما أدرى والدتها في أيّ وسط ستكون؟
في الواقع، هي لاتريدها أن تغنّي. تخشى عليها من كلّ شيء. لو استطاعت لأبقتها في البيت. تراها غزالة يتحينّون نحرها ليفوزوا بمسكها.
أما هي فتعتقد أنّ غزالاً في البيت ليس غزالاً بل دجاجة. لقد خُلقت الغزلان لتركض في البراري، لا لتختبئ، فالخوف من الموت.. موتٌ قد يمتد مدى الحياة.
منذ أشهر وهي تدرس الموسيقى، والآن تشعر أنّ بإمكانها مواجهة أصعب جمهور: الجمهور المصري. أيّ مغامرة أن تقبل بتقديم حفل القاهرة!
104
عرضت على والدتها أن ترافقها، قصد طمأنتها، وتغيير مزاجها قليلاً. لكنّها، كما توقّعت، رفضت عرضها، وزادت بتذمّر:
-مَنّي مرتاحة لّسفرتك لَمصر ولأجوائها الفنّيّة.. ولا بَدّي مصاري من حفلاتك.. بفضّل آكل منقوشة جبنة بكرامة!
راحت ككلّ مرة تدافع عن نفسها:
-كرامتنا مصونة يا إمّي.. وأنا ما أكسب كثير من هاي الحفلات.. حتّى هاذ الحفل حفل خيري لَنجمّع مبلغ لإنشاء قسم طبّي للأطفال المرضى بالسرطان..
استطاعت بهذه الكلمات أن تكسب رضاها، وتسافر وقد فازت بمباركتها وخاصة أن نجلاء اقترحت مرافقتها، فالسفرة قصيرة، وهي لم تزر القاهرة من قبل، وكان هذا أجمل عرض، نظراً لما كان ينتظرها من مفاجآت.
لم يكن يفصلها عن الحفل سوى ساعات، حين بلغها أن احدهم اشترى قبل أيّام كلّ البطاقات.
في البدئ لم تُصدّق.
صحيح أنّه حفل خيري، لكن كان في إمكانه أن يكتفي بشراء كمّيّة من التذاكر، والتبرّع ببقيّة المبلغ، احترماً لمن يودّ أن يحضرها. مامعنى أن يشتري أحد بطاقات قاعة كاملة، سوى اعتقاده أنّه يساوي الحضور جميعاً، لأنّه يملك أكثر ممّا يملكون؟ وبأي حق يحرم الناس حضور الحفل، فقط لأنه لايدري ماذا يفعل بماله، ويبحث عن وسيلة تؤمّن له إعلاناً في الجرائد كفاعل خير؟
105
راودتها فكرة رفض الغناء كي تلقّن هذا الرجل درساً في التواضع. غير أنّ متعهّد الحفل أبلغها بعد نقاش منطقي، أنّ عليها في هذه الحالة أن تدفع مايتكبّده من خسائر.
لأوّل مرّة شعرت بأنّ ما في جيبها لايغطّي منسوب كرامتها.
-ومن هو هذا الرجل؟
لقد حضر أحدهم ودفع المبلغ باسم إحدى الشركات، ربّما كان أحد رجاله.. ماترك لي مجالاً للسؤال.
قالت بتهكم:
-لعلّه شيخ قبيلة ويحتاج إلى قاعة كاملة.
-إن كان أميراً فلن يحضر لا هو ولا قبيلته!
-معقول.. فوق هذا ألّا يحضر أبداً؟
-مايعني الأثرياء هو أن يحضر اسمهم. في النهاية، هذا حفل خيري، المهّم أنّنا بعنا كلّ البطاقات.
كان الغناء بالنسبة إليها ضرباً من الكرامة، ولم يفارقها الإحساس بأنّ الرجل يهين سخاءها بثرائه.
لقد تنازلت عن دخلها من هذا الحفل، برغم حاجتها إلى المال. واشترى هو بطاقات قاعة بما فاض من ماله، وسيبدو الآن الأكثر كرماً وإنسانيّة!
عاشت الساعتين السابقتين للحفل بتوتّر عالٍ، في انتظار أن يُرفع الستار عن جواب حيرّ الجميع لغزه: من يكون هذا الرجل؟
كانت تزداد عصبيّة كلّما اقترب الحفل، من دون أن يكون في القاعة أيّ وجود لتلك الحركة التي تسبق الحفلات عادةً.
ماذا لو لم يحضر؟
106
بدأ مزاجها يسوء. قررّت، تفادياً للمفاجآت، أن تُخبر أعضاء الفرقة أنّهم في انتظار شخص واحد..
سأل أحد العازفين:
-ولو حضرتو ما جاشي نعمل إيه؟
ردّ الآخر:
-ما لنا بيه.. يجي وإلّا ما يجيش إحنا شغاّلين.
-يعني عاوزنا نعزف لقاعة مافيهاش حد!
-ومالو.. دي أمّ كلثوم كلّها وغنّت للكراسي.. ثلاث ساعات وهي تغنّي في فرح ما حضروش عريس ولا عروس ولا معازيم..
-إزاي بقى ياعم!ّ؟ هي تجننّت؟!
-أبوها هو اللي تجّنن.. سبع ساعات وهُمّا على الحُمار جايين من الريف عشان أمّ كلثوم تغنّي في الجوازة دي.. ولمّا وصلوا لقوا السّرادق جاهز والكلوبات ضاوية والكراسي مصفوفة بس ما كانش فيه حد.. ولا حتّى العريس! كان الجّو وحش قوي وماحدّش عاوز يطلع من بيتو. هم كانوا حيسمعوا مين يعني؟ صالح عبد الحيّ ولا عبد اللطيف البّنا؟ فراحوا مأجّلين الفرح. لكن كانو حيقولولها الزاي يعني، ما هو وقتها ماكانش فيه تلفونات زيّ دلوقت.
راح العازف يحكي بقيّة القصّة بتفاصيلها وكأنّه عايشها.
سأله الثاني غير مصدقّ:
-عرفت القصّة دي منين؟
كتبتها الستّ في مذكّراتها.. دي بتنكّت وهي بتحكيها. بتقول: انبسطت قوي يوميها. أصل دي كانت أوّل مرّة أغنّي بيها في الريف من غير ما المعازيم يكسّروا الكراسي على راس بعض في الآخر،
107
وبدل تلات ساعات خناقة ونص ساعة غناء غنيّت تلات ساعات ولا قاطعنيش حدّ!
كانت تستمع إلى حوارات العازفين بإعجاب من لم يعتد أن يرى في كلّ مصيبة مناسبة لإطلاق نكتة. كانوا يضحكون ويتمازحون ووحدها يشلّها التوتّر. إحساسُ ما يقول لها أن لا أحد سيأتي، وربّما سيكون عليها أن تغّني للكراسي!
كذب حدسها.
كانت الساعة التاسعة تماماً عندما جاء من يُخبرها أن بإمكانها أن تبدأ الحفل. وجدت في احترام الوقت المعلن ما يُواسي كرامتها. لقد حضر السّيد على الوقت إذاً، وهذا جميل ونادر في القاهرة.
بدأت الفرقة العزف تمهيداً لظهورها على المسرح، ثم أطلّت كبجعة سوداء داخل ثوب أسود من الموسلين، لكأنّها ((ماريّا كالاس)) في ثوب أوبّرالي، لا يزيّنه إلّا جيدها العاري وشعر أسود مرفوع إلى أعلى. إنّها الفتنة في بساطتها العصيّة. اختارت هذه الطلةّ لتبهر بها القاهرة، لكنّها تجمّدت على المنّصة وهي تتأمل المشهد الغريب.
بالتزامن مع ظهورها، كان رجل أنيق المظهر يدخل القاعة من البوابّة الرئيسيّة، في أبّهة واضحة، محاطاً بمرافقيه. توقّعت أن يأخذوا مكانهم جواره، ولكنّها استنتجت بعد ذلك، وهو يعطي أحدهم معطفه ويناوله ورقةً نقديّة، أنّهم موظّفون في المسرح حضروا لاستقباله ليس أكثر.
أخذ الرجل مكانه يمين المسرح، في منتصف الصفّ الرابع. حيّاها بحركة من رأسه وبدا جاهزاً لسماعها.
108
لم تعلم هل كان يجب عليها أن تُحييّه قبل الشروع في الغناء، وهل تتوجّه بكلامها إلى ((الجمهور الكريم)) أم إلى ((السيّد الكريم)) الذي غطّى بكرمه كلّ المقاعد الشاغرة!
أتشكره على سخائه؟ أم تقول ما يؤلمه وجعله يغادر القاعة، فيكون هو من أخلّ بالعقد؟ حضرها قول قرأته يوماً ((بأموالك بإمكانك ان تشتري ملايين الأمتار من الأراضي، لكنّك في النهاية لن تستقرّ بجسدك إلّا داخل متر ونصف من قشرة كلّ هذه الأمتار)). تمنّت لو قالت له إنّه اشترى بماله كلّ هذه المقاعد، لكنّه لا يستطيع أن يجلس على أكثر من مقعد، وفي هذا ردّ اعتبار للكراسي الشاغرة.
منذ البدء، أخذت قراراً بألّا تحيّيه قبل أن تشرع في الغناء. ما دام هو نفسه لم يُحيَّها، ولا تقدّم من المنصّة ليسلّم عليها، على الأقل بصفته الممثّل عن كلّ القاعة، والنائب عن كلّ الغائبيين.
ستغنّي لمدةّ ساعة ونصف الساعة فقط. ستعطيه بالظبط على قدر مادفع ولن تسأله ماذا يُفضّل أن يسمع، هل سألها هو أكانت تفضّل أن تغنّي لقاعة حاشدة بالحضور.. أم فارغة الإ منه!
حاولت أن تضبط مشاعرها، أن تظلّ على هدوئها، أن تُغني للكراسي الشاغرة، كما لو كانت ملأى، لكن في نهاية كلّ أغنية، كان تصفيق اليدين الوحيدتين يطيح أوهامها.
التصفيق كما التصويت، لا يكون إلاّ عن شخص واحد. لا يمكن أن تُدلي بأكثر من صوت، ولا أن تصفّق بأكثر من يدين مهما حاولت. كيوم ذهب والدها إلى العاصمة لحضور حفل السيد مكاوي، ولسوء التنظيم لم يسمع بالحفل سوى قلة من الناس. فراح، عن حياء، يصفق كثيراً بعد كل أغنية، ليقنع المغني الضرير بأن الحضور أكثر ممّا هو
109
في القاعة. لكنّ الأعمى يرى بأذنيه، ولا يحتاج إلى عينيه إلّا للبكاء. لذا لم يلحظ أحد حزنه، خلف نظّارته السوداء.
فليكن، سُتغنّي لهذا الغريب الجالس بين ثقته وارتباكها، بين عتمته وضوئها. فلقد اشترى، لمدّة زمنيّة، صوتها.. لا حبالها الصوتيّة.
أثناء غنائها، لم تتوقّف عن مدّ حديث مع نفسها، فالموقف غريب، ولا تذكر أنّها سمعت بمطربة غنت لقاعة ((مزدحمة)) برجل واحد. أمّ كلثوم غنّت لقاعة فارغة إلّا من الكراسي وهذا أهون. ما دام والدها ولا أحد غيره من قرر ذلك. قصد صاحب الفرح ليعيد إليه الخمسين قرشاً التي تقاضاها. لكن الرجل رفض استعادتها شفقة عليهم ((ياسيدي ماعليهش اعتبرها زكاة)) قالها وانصرف.
لكنّ أباها كان عزيز النفس لا يقبل الصدقات. سألته بحيرة فتاة تأتمر بأوامر أبيها:
-أعمل إيه؟
-لازم تغنّي!
-أغنّي لمين؟ مافيش ولا واحد موجود أصلاً عشان أغني له!
-مش مهّم. لازم نخلّص ضميرنا!
أُسقط بيدها. راحت المسكينة تغني لقاعة ليس فيها أحد.
الفرق بينهما وبين أمّ كلثوم، هو هذا الواحد، الذي تفصلها عنه مسافة صفوف، وأسئلة، وعلامات استفهام بعدد المقاعد الشاغرة.
ما الذي جاء به إلى الصفّ الرابع؟ ولماذا تنازل عن ثلاثة صفوف مادام همّه أن يكون الأوّل؟
عادةً يحتاج المغنّي أو الخطيب، من موقع إطلالته على القاعة، إلى أن يتوجّه إلى وجه واحد، لا يعرفه بالضرورة، لكنّه يرتاح إليه. وجه
110
يختصر كلّ الحضور، يقرأ على صفحاته أثر مايؤديّه. لكن كيف التعامل مع وجه رجل يُلغي القاعة، ولا يترك بحضوره الرصين الصامت الخالي من أيّ ردّة فعل، أيّ احتمال للتواصل.
وماذا لو كان مهووساً أو قاتلاً؟ هي دائماً تفكرّ في الاحتمالات الأسوأ. قرأت مرّة أنّ أحدهم في إسبانيا، قام من مقعده أثناء حفل غنائي، وأطلق النار على المغني وهو يؤدي أغنية عاطفية، فأرداه قتيلاً. كانت الأغنية ترتبط في ذاكرته بقصة حبّ فاشلة!
ثمّ، ألم يحدث في مصر أن قتل رجال أعمال حبيباتهن المطربات، إثر نوبة جنون؟
ماتعتقده، هو أنّه يريد أن يصنع الحدث بضوئه. لكنّها الأقوى ضوءاً منه، إنّها تغنّي على النقطة الأكثر ارتفاعاً، كما يقف تمثال على قاعدة، وكما كانت تقف على المصطبة المقابلة لتلاميذها. إنها هنا أيضاً المعلمة وسيّدة الصفّ.
استدركت، لكنّها هناك كانت تعرف الوجوه المقابلة لها واحداً واحداُ. تعرف اسم كلّ واحد وأين يجلس، فهي التي اختارت له مقعده، وبإمكانها أن تطرده من الصفّ إن شاءت.
أيّهما الأقوى إذاً؟ هي في مقامها العالي أم هو في مجلسه الشاسع؟
أفكار كثيرة عبرتها على مدى ساعتين. كانت تُغنّي فيها تارةً لعاشقها وطوراً لقاتلها، ومرّة لرجل تحتقره، وأخرى لرجل لم تستطع أن تمنع نفسها من الإعجاب به. بتلك المسافة التي وضعها بينه وبينها، ليوهمها بكثرته، وليمنح صوتها مسافة الشدو طليقاً. ولأنّها لم تستطع
111
أت تتبين ملامحه تماماً، كانت تستعجل نهاية الحفل عساه يحضر ليعرفها بنفسه.
تركت أغنياتها الأجمل للختام، بعدما تحسن مزاجها أغنيةً بعد أخرى، وبدأت هي نفسها تتواطأ مع جماليّة الموقف وشاعريّة الغناء مصحوبة بفرقة كاملة، في قاعة فارغة.. إلّا من رجل واحد!
انحنت انحناءه كاملة، رداً على وقوفه عند انتهاء الحفل، ووقفت الفرقة خلفها تحييّه. كان مشهداً غريباً وآسراً، في أحاسيسه المجنونة والفريدة. كاد قلبها أن يتوقّف أكثر من مرّة، في انتظار الدقيقة التي سيتقّدم فيها منها.
ماذا تراه سيقول لها؟ وبماذا ستردّ عليه؟ أتشكره؟ وعلام تشكره؟ ام تسأله لماذا؟ ومن يكون؟ لا بل ستشكره فقط. وغداً ستعرف من الجرائد من يكون. لتدعه يعتقد أنّ اسمه لايثير فضولها. سيقتله الأمر قهراً. أن تتحاشى سؤاله عن اسمه، كأن تترفع عن معرفة حدود سطوته، هل ثمّة إهانة أكبر!
أثناء ذلك، جاء أحد موظّفي المسرح، وقدم لها باقة التوليب نفسها. لم تشغلها المفاجأة. منذ أشهر وهي تتلقى الورود نفسها في كلّ حفل تقّدمه.
لم يكن يشغلها غير هذا الرجل الواقف على بعد خطوات منها. لكن قلبها خفق عندما حضرت فتاة إلى المنصّة، لتقدم لها باقة ورود حمراء. استنتجت من تنسيقها وضخامتها أنّها منه. عبرها شعور لذيذ.. أمدّت قائد الفرقة الذي كان واقفاً خلفها بباقة التوليب، وحضنت بذراعها اليسرى الورود الحمراء امتناناً منها لصاحبها. لكن
112
الرجل اكتفى بالرد عليها ملوحاً بيده، تحية شكر ووداع في آن واحد، وتركها مذهولة، وهي تراه يغادر القاعة، مطوَقاً بالموظّفين الطامعين في إكراميّة.
أيّ رجل هذا، ومن يخال نفسه؟!
كيف استطاع أن يجعلها تُغنّي له على مدى ساعتين، ثم يوليها ظهره ويغادر القاعة؟ لم يصافحها. لم يلمس يدها. لم يلمس حتى سمعها بكلمة شكر. رفع يده يُحييها من بعيد ومضى. لم يمنحها فرصة أن تقول كلمة.. أو لا تقول. أن تطرح سؤالاً أو لا تطرح. إنه إمعان في الإهانة. حتى وروده الحمراء، كانت خرساء وكتومة مثله، لا ترافقها أي بطاقة شكر. أهو أكبر من أن يضع اسمه على بطاقة؟ أم يراها أصغر من أن تكون أهلاً لبضع كلمات بخطّ يده.
غادرت المسرح إلى مقصورتها مدمّرة. خلعت فستان السهرة على عجل. لم يكن هناك أحد ليهنّئها أو ليشكرها. كل إدارة المسرح وموظّفيه كانوا في وداع ((السيد الكريم)).
وحدها نجلاء شعرت بحزنها. قالت وهي تساعدها على جمع أشيائها:
-كنت رائعة..
وعندما لم تسمع جواباً واصلت:
-أفهم أنّ الأمر ما كان سهلاً، ولكنّها تجربة جميلة ومثيرة.. الغناء لشخص واحد!
ردت:
-ما كان شخصاً.. إنَّ من يحجز قاعة بأكملها ليستمع وحده إلى حفل، يخال نفسه إلهاً. لذا كان ضرباً من الكفر أن أقبل الغناء له.
113
-لا تضّخمي الأشياء، أنت يا عزيزتي مفرطة في عزّة النفس.
-هذا أفضل من أن أفرّط بنفسي. ألا ترين في تصرّف هذا الرجل غطرسة واضحة؟ حتى الورود التي بعث لي بها ليست مرفقة ببطاقة كما تقتضي اللياقة.
-أكنت تريدينه أن يجثو عند قدميك؟ إن الورود الحمراء لاتحتاج إلى بطاقة. من الواضح أنه متيّم، يكفي مادفع ليستمع وحده إليك، هذا تكريم لم تحظّ به على علمي مطربة عربيّة.
-تسمّين هذا تكريماً؟!
كانتا تهمّان بالمغادرة عندما صادفتا قائد الفرقة. قال وهو يمسك بباقة التوليب:
-مستني حضرتك عشان أعطيك باقة الورود اللي سبتيها معايا. بالمناسبة، إيه رأيك في الحفل؟
قالت وهي تأخذ منه الباقة:
-أيّ حفل؟ الحفل يحتاج إلى احتفاليّة أي إلى طرفين. ما كان في القاعة نبض حتّى نسّميه حفلاً!
أمدّته بسلّة الورود الحمراء، كي تتخلص من أي شيء له علاقة بذلك الرجل، قالت:
-خذ هذه الورود لزوجتك، ستسعد بها.
ردّ الرجل مبتهجاً:
-متشكرين قوي يا هانم.
أخذت السياّرة إلى الفندق. تركت نجلاء تحمل باقة التوليب، تكفّلت هي بحمل مرارتها.
114
حال وصولها إلى جناحها غيّرت ثيابها، وجلست مستندة إلى ظهر السرير. كانت على عجل أن تجلس إلى نفسها قليلاً تستعيد ما عاشته من هزّات نفسيّة في سهرة واحدة، عساها تفهم ما حّل بها. لو كانت وحدها لبكت الآن، لكن نجلاء، في اجتياحها لها، تفسد عليها آخر مابقي لها من سعادة: حزنها.
طلبت نجلاء من خدمة الغرف إحضار مزهريّة ثم سألتها:
-هل أطلب لك شيئاً للعشاء؟
ردّت:
-وجبة الإهانة كانت دسمة حدّ إفقادي الشهّية.
-يا الله كم أنت عنيدة ومكابرة، تدرين أكثر ماتحتاجين إليهِا: إعادة تأهيل نفسي كي تتأقلمي مع هذا العالم، لأنّ العالم يا عزيزتي لن يقوم بجهد التأقلم معك! سأطلب لي شيئاً، إنّي جائعة.. بإمكانك أن تقدّمي لي عشاءً فاخراً الليلة أليس كذلك؟.. مادمت أنت المشهورة والثرّية بيننا!
-أنا دائماً ثريّة. اطلبي ماشئت!
-بالمناسبة، هل عرفت كم دفع هذا الرجل ثمن الحفل؟
-لا أريد أن أعرف!
كانت نجلاء تهمّ بوضع الورود في المزهريّة عندما عثرت على بطاقة صغيرة ملصقة بالباقة، قرأتها ثم صاحت:
-حسناً فعلتِ ألّا تتعشّي الليلة، فأنت مدعوّة للعشاء غداً في مطعم على ظهر مركب عائم في النيل.
انتفضت جالسة. أخذت منها البطاقة.
((هل تقبلين دعوتي غداً للعشاء؟
115
حتماً ستتعرّفين إلىّ هذه المرّة.
أنتظرك عند الثامنة مساءً على مركب الباشا)).
أعادت قراءة البطاقة غير مصدّقة. أيعقل أن يكون قد عاد؟ لقد مّرت أربعة أشهر على عودتها من باريس، وانتهى بها الأمر للاعتقاد أنها لن تراه أبداً. لكنّ الرجال هكذا.. يأتون عندما نكفّ عن انتظارهم، ويعودون عندما يتأكدون أنّنا ماعدنا معنيّات بعودتهم. أسعدها أنها هزمته وأجبرته على كسر قانون لعبته الحمقاء تلك. وجدت في عودته ثأراً لما ألحقه بها الآخر من إهانة. فليكن.. ليدفع رجلٌ عن رجلٍ آخر!
أخفت فرحتها عن نجلاء، قالت:
-كأن مجنوناً واحداً لا يكفي، إنه الرجل الذي يطاردني بباقات التوليب . منذ أشهر لم يُرفق ورده ببطاقة. تدرين.. أوّل باقة بعث لي بها كتب على بطاقتها ((الأسود يليق بك)).
-فهمت لماذا إذاً لم تخلعي الأسود حتّى الآن!
-لا، ليس بسببه. الأسود ((محرمي)) مذ لم يُبق لي الموت محرماً. إنني أُنسب إليه، أشعر أنّه يحميني ويمّيزني عن غيري من المطربات. ثم أنا بطبعي أحبّ الأسود منذ أيّام التعليم، أتذكرين؟
-ومتى توقّفت عن أن تكوني معلّمة؟
-هذه مهنة تطارك كلعنة، حتّى عندما تتخلّصين من الطباشير، واللّوح وتصحيح الامتحانات، تطاردك بالقيم التي حاولت أن تزرعيها على مدى خمس سنوات في أفواج التلاميذ، كما تُزرع أشجار لإيقاف التصحّر. شيء يذكّرك بأنّك كنت يوماً قدوة لهؤلاء الصغار. هالة المعلّمة لاتفارقك. ضوؤها أقوى من نجوميّة الشهرة لأنّه ليس اصطناعياً. إنّه ضوء داخلي.
116
علقّت نجلاء بتهكّم وهي تشرع في الأكل:
-ياسّيدة الضوء الداخلي أبشري، ستشقين بضوئك. ما أدراني، ربّما كان هذا قدرك ماداموا قد سمّوك هالة.. ثم أنا جائعة، أتودّين الانضمام إلىّ أم ستأكلين البطاقة؟!
ضحكت وانضمّت إليها:
-لن آكل البطاقة، لكن أتمنّى لو استطعت التهام الوقت.. بي فضولُ جارف لمعرفة من يكون هذا الرجل.. أم لعلّه يمتحنني هذه المرّة أيضاَ وقد يتركني في المطعم؟
-لا أدري أين تعثرين على مجانينك!
-عندما تقرئين البطاقات التي يرسلها مع الورود تجزمين أنّه شاعر.
-وربما كان صاحب محل للورود ويعمل شاعراً في أوقات فراغه.
-كُفّي عن المزاح. إن مايحيّرني حقاً هو كيف يدري بتواريخ حفلاتي ومواعيد ظهوري على التلفزيون، وكيف يتمكّن من أن يرسل لي وروداً حيثما أكون..
-أيّتها الأمّيّة، لا يحتاج الأمر إلى قارئة فنجان. بإمكانك بالإنترنت أن تعرفي كلّ شيء عن المشاهير: حفلاتهم، تنقّلاتهم.. أمّا الورود فثمّة شركات عالمّية تتكفّل بإرسال باقتك في اليوم نفسه إلى أيّ مكان في العالم، يكفي أن تصفي لهم أي نوع من الورد تريدين، وهذه الباقة ربما يكون بعث بها إليك من أي مكان في العالم.
-أنت على حقّ. لو كان اليوم في القاهرة لدعاني الليلة إلى العشاء. لماذا ينتظر إلى غد؟
-من المؤكد أنّه رجل ثري ليرسل لك وروداً أينما كنت في العالم!
117
-وقد لا يكون ثرياً. الرومانسيّة لا علاقة لها بالإمكانات الماديّة. ربّما كان ألغى بعض مصاريفه الخاصة ليبعث لي بباقات ورد.. أو ليدعوني غداً إلى العشاء في مطعم كبير.
-يا للحماقة.. لا أفهم إصرارك على أنّه غير ثري!
-لأن الأثرياء على عجلة من أمرهم. هم لايملكون طول النفس. يعنيهم الحصول على مايريدون فوراً. في الانتظار إهانة لهم. هم يعانون من جنون العظمة، كهذا الذي حجز قاعة كاملة ولم يشغل إّلا مقعداً واحداً فيها. سترين غداً سيصنع أهمّ خبر في الصحافة المصرية!
-فليكن، هذا لن يزيدك إلّا شهرة.
-بل لن يزيد إلّا من غيرة المطربات مني. صدّقيني، أنا أخاف كيدهنّ وشائعاتهن. لا أريد إلّا الستر.
-الشائعات تُغذّي الضوء ياعزيزتي.
-بل الضوء هو الذي يغذي الشائعات!
***
تهيّأت لموعده دون تبرّج.
وضعت من كلّ شيء أقلّه. ذهبت إليه بسيطة كفراشة السواقي.. وكفراشة تأخّرت. ماتوقعت أن يكون اجتياز شوارع القاهرة في تلك الساعة من المساء، أطول من عمر انتظارها لذلك الموعد.
بين باقته الأولى وباقته الأخيرة، قطعت نصف المسافة إلى الحبّ. لكنّ الطريق بين فندقها والمطعم العائم الذي ينتظرها فيه كان أطول. وحين بلغته فقط، تنبهّت أنّ هذا الرجل الذي يتقن لعبة الغموض، نجح كعادته في استدراجها إلى عتمته.
118
كمن يأخذ قطاراً دون أن يسأل عن وجهته، تأخّر الوقت على الأسئلة. مذ دلفت إلى باب المطعم، أصبحت داخل القاطرة،. ألقت نظرة خجولة على مكان لا يخجل من إشهار فخامته. أعادت النظر على الطاولات الموزّعة بطريقة حميميّة الزبائن ورقيّ المكان. بدا لها المطعم في تعدّد زواياه، متاهة لامرأة مثلها في ارتباكها الأوّل، لا تعرف اسم الرجل الذي جاءت تقابله، ولا تعرف شكله. بدأت تندم على قبولها دعوة، لاتعرف من جاءت تقابل فيها. فكّرت أنّه ربّما لم يحضر بعد، أو أنّه موجود ويريد اختبارها مرّة أخرى.
قرّرت قلب قوانين اللعبة. ستجلس إلى طاولة شاغرة، وليحضر هو إليها مادام يعرفها. فمن غير المعقول لامرأة في شهرتها، أن تبقى واقفة هكذا في بهو المطعم.
قصدت طاولة توقعت أنه كان سيختارها، في زاوية جميلة تضيئها أنوار خارجيّة تتلألأ على سطح النيل.
إنّ المكان طرف ثالث في أيّ موعد أوّل، وعليها ألّا تخطئ في اختيار الطاولة. هذا إن لم يكن حجز طاولة لا علم لها بها.
كانت تلحق بالنادل، حين وجدت نفسها أمام تلك الملامح، التي خزّنتها ذاكرتها على مدى ساعتين. إنّه ((هو))، الرجل الذي غنّت له أمس.. ماذا يفعل هنا؟ أتراها مصادفة؟ أم هو من ضرب لها موعداً؟ أغلق جهاز الهاتف النقال الذي كان يتحدث به، ووقف يسلم عليها. لم تفهم أكان ينتظرها أم فوجئ بوجودها.
مدت يدها نحوه فانحنى يضع قبلة عليها. لم تُصدق عينيها.
119
قال مرحّباً:
-سعادة كبيرة أن أحظى برؤيتك اليوم أيضاً..
قبل أن تردّ أو تستردّ أنفاسها، كان النادل يسحب لها الكرسي. جلست وهي تفكّر في الرجل الآخر. ماذا لو جاء، أو لو كان الآن إلى طاولة أخرى يراها تجلس إلى غيره؟ ظلّت متوتّرة تسترق النظر بين الفينة والأخرى إلى حركة المطعم.
قال:
-ماتوقعتُ أن يجمعنا يوماً هذا المكان!
زاد شكّها في أنّه قد يكون وُجد هناك مصادفة. أحاسيس متناقضة عبرتها. غدا ذعرها من أن يحضر الآخر ولا تدري حينذاك مع من تجلس.
علّق وقد لاحظ ارتباكها وتلفّتها بين الحين والآخر:
-هل يزعجك شيء ما؟
ردّت إنقاذاً من انتظارها:
-لا.. لا أبداً.
كان هذا أوّل ما لفظته.
أمامها الآن كلّ الوقت لتتأمّله عن قرب.
رجل خمسينّي بابتسامة على مشارف الصيف، وبكآبة راقية لم تر لها سبباً، وبشعر لم يقربه الشيب بفضل الصبغة. لاحقاً ستعرف أنّ رجلاً يصبغ شعره يُخفي حتماً أمراً ما. رجل مهذب النظرات. مهذّب النوايا. يقبّل يدها بأرستقراطّية عاطفيّة، كمن يضع مسافة بينه وبين غيره من عامّة الرجال.
120
مثلُه أرقى من غباء قبلة على الخدّ أو نفاق مصافحة يد!
بانحناءته تلك، رفع عالياً سقف الرجولة، وحوّلها بقبلة على يدها إلى أميرة، فبدأت تندم على الثوب الذي جاءت فيه، وكان يمكن أن ترتدي أغلى منه، وعلى شعرها الذي لم تغيّر تسريحته للمناسبة، وتركته منساباً بغجريّته كالعادة.
لكن، لا يهمّ أن تكون الساحرة الطيّبة قد خذلتها في موعدها الأوّل، فهي لاتريد الليلة أن تكون ((سندريلا)). كان لها إشعاع الكائن المُشتهى، وهذا يكفيها.
كانت سّيدة أجنبيّة شقراء بثوب سهرة عاري الظهر، تعزف على البيانو منوعات موسيقية.. فتركا ((شوبان)) يضع بين كلامهما شيئاً من الفالس.
قال:
-أشكرك على سهرة البارحة، سعدت بأن أنفرد بصوتك.
ردّت بمكر:
-توقّعت أن يسعدك أكثر العمل الخيري الذي قمتَ به!
أجاب:
-لابأس أن يكون الخير ذريعة لإسعاد أنفسنا أيضاً.
كانت ستسأله هل كان يرعى الأعمال الخيريّة أم أنّ الأعمال الخيريّة ترعى مكاسبه؟
لكنّ السؤال ما كان مناسباً لعشاء أوّل.
-هل أحببت الاغاني التي قدّمتها؟
-أحببت أن تغنّي لي وحدي.
121
إله إغريقي يردّ على أسئلتها. يجلس أمامها على كرسي. أتجلس الآلهة على كرسي واحد؟ وماذا لتطلب للعشاء عندما تتواضع وتقاسم البشر طعامهم؟
تطلب نبيذاً فاخراً طبعاً، وعشاء خفيفاً راقياً، أي أغلى ما يقدّم على قائمة الأكل، بينما تطلب هي الأرخص كعادتها، كما لو كانت بمفردها. لا تريد ادّعاءً كاذباً بأنّها ارستقراطيّة المأكل، ولا أنّها تستغلّ ثراءه لتطلب ما تشاء. بإمكانها أن تعود غداً مع نجلاء وتطلب ما تريد بمالها.
ماتريده الآن حقاً، هو أن تعرف من يكون هذا الرجل ولماذا الآخر لم يحضر؟ أيكون جاء ورآها مع غيره فمضى كما حدث في المطار؟ وماذا لو لم يكن عليها أن تنتظره، لأنّه يجلس قبالتها الآن، محتسياً كأس نبيذه؟
علّق على اعتذارها عن عدم مقاسمته متعته:
-كيف تستطيعين بلوغ تلك الدرجة العالية مفي الشجن حين تغنين.. إن كنت لم تختبري النبيذ في حياتك؟
ردّت:
-من حيث جئت يسكر الناس بالحزن.
-كنت أعني بالشجن النشوة.
احمرّت وجنتاها. ما كانت هذه الكلمة في قاموس حياتها.
ردّت:
-بالنسبة لي، الشجن حزن متنكّر في الطرب.
وضع كأسه وسألها:
-من أين لك هذه اللغة؟
122
-من أسئلتك.
ضحك.
-لك عندي أسئلة كثيرة إذاً!
-مقابل سؤال واحد.
-هاتيه..
-إن كنت تحبّ سماع غنائي ودفعت ما دفعت لتنفرد بصوتي كما تقول، فلماذا لم تحضر لتسلّم عليّ وتشكرني في نهاية الحفل ما دامت اللياقة لا تنقصك كما يبدو؟
-كان أجمل أن أراك أوّل مرّة على انفراد. ثمّة قوس قزح لا يظهر إلّا في اللقاء الأوّل. يضيء سماءنا كومضة برق. أردتُ أن تتعرفي إلى من ضوئي لا من خدعة الأضواء.. لكن قلبك لم يدلك علي تلك المرة أيضاً!
أقال ((أيضاً))؟
شهق قلبها لصاعقة المفاجأة. إنه هو.. أو لعلّه كلاهما!
هو من أرسل لها إذاً باقة التوليب نفسها ليدعوها إلى العشاء اليوم. هو من أخلفت معه ذلك الموعد الأوّل، أو ذلك الفخّ الذي نصبه لها في المطار قبل أشهر ووقعت فيه!
لم يراودها لحظة واحدة أثناء غنائها احتمال أن يكون هو من حجز القاعة. أيكون ثرياً إلى هذا الحد، وعاشقاً وعاطلاً عن العمل كي ينفق جهده وماله في نصب الفخاخ لها. هل فرغ العالم من النساء لتغدو جهده وماله في نصب الفخاخ لها. هل فرغ العالم من النساء لتغدو وحدها هاجسه؟ ولماذا عاد بكلّ هذا الصخب وقد مضى كلّ ذاك الانسحاب الحاسم؟
123
راح قلبها يخفق من وقع المفاجأة. ظلّت للحظات صامته تعيد ترتيب أوراقها، وتستعيد مكالماتهما في ذلك الزمن الأوّل. تتأمّل هذا الرجل الذي على مدى أشهر أسعدها وآلمها.. اختبرها وتخلّى عنها. دلّلها وأهانها.. جاءها وجاء بها كلّما شاء.. وحيثما شاء. ها هو ذا إذاً.
عبثاً وضعت لصوته وجهاً، وللغته مهنة، ولجيبه سقفاً، دوماً زوّر لها الإشارات. لعلّه حان وقت طرح الأسئلة.
-هل لي أن أسأل ماذا تعمل في الحياة؟
ردّ ساخراً:
-لو كان لي الخيار لما كنت غير بائع للأزهار، فإن فاتني الريح لا يفوتني العطر.
-أمنية جميلة.
-إنها أمنية اشترك فيها مع عمر بن الخطاب. هو من قالها.
-تبدو قارئاً جيداً.
-ليس تماماً، لكنني أحفظ كل ما أحب عندما يتعلق الأمر بثقافة الحياة.. أعني مباهجها.
-تدري، قلت البارحة لابنة خالتي إنّني أكاد أجزم أنّ هذا الرجل يملك محلاً للورود، فردّت مازحة.. ويعمل شاعراً في أوقات فراغه!
-صحّحيها.. أنا شاعر بدوام كامل وأعمل بين الحين والآخر رجل أعمال..
-هل تكتب الشعر حقاً؟
-أكتبه؟! لا تلك هواية المفلسين، أنا أعيشه، بإمكانك أن تصنعي من كل يوم تعيشينه قصيدة – أضاف بعد شيء من الصمت – لي مثلاً معك دواوين شعر سأطلعك عليها يوماً.
124
قالت مندهشة:
-معي؟
أجاب كمن يطمئنها:
-المشاريع الجميلة قصائد أيضاً.. كهذا العشاء مثلاً. سبعة أشهر من المثابرة على الحلم والتخطيط له من أجل بلوغ لحظة كهذه. أليس وجودنا هنا نصّاً شعرياً؟!
أخذ جرعة نبيذ كما لو كان يحتسي تلك اللحظة.
علّقت:
-جنون. كان يمكن للأمور أن تكون أسهل.
-الأسهل ليس الأجمل ((إذا كان الطريق سهلاً فاخترع الحواجز)).
-أمّا أنا فلم أجد غير الحواجز وكان عليّ اختراع الطريق!
-كلّ المتفوّقين في الحياة اخترعوا طريقهم. تدرين.. الفوز في المعارك ذات الشأن الكبير يجعلنا أجمل. الناجحون جميلون دائماً. أما لاحظت هذا؟ حتى صوتك ما كان يمكن أن يكون جميلاً إلى هذا الحد، لو لم ينجح في امتحان التحدّي.
ظلّت صامتة.
حتماً هو استقى ما يعرفه عنها من مقابلاتها التلفزيونيّة. لكنّ العجيب أنّه يتكلّم أفضل منها عن نفسها، ويوفّر عليها الأسئلة، بل السؤال الأهمّ: ((لماذا هي؟)).
ويبقى سؤال آخر:
-لماذا التوليب بالذات.. وذلك اللون البنفسجي؟
-ربّما كنتِ تفضّلينها وروداً حمراء، كتلك الباقة التي احتضنتها البارحة ببهجة، وسلّمت الأخرى لقائد الفرقة!
125
كان في نبرته تهكّم ذكيّ لا يخلو من المرارة. علت وجنتيها حمرة الارتباك، قالت معتذرة:
-فعلت ذلك إكراماً لك. ظننتها باقة منك!
ردّ بتهكّم:
-تعنين ظننتها من السيّد الذي حجز قاعة كاملة ليجلس أمامك. والأخرى من ذاك الذي يطاردك بباقات التوليب منذ أشهر!
أُسقط بيدها. ردّت وقد حشرها في ركن الحقيقة:
-في تلك اللحظة، كان يعنيني الرجل الجالس قبالتي فهو سيّد الحفل.
-أنت تعترفين إذاً بأنّك انحزت لسطوة المال وأهنت المشاعر..
قالت بعد لحظة صمت شردت فيها بأفكارها:
-أتكون من بعث لي بباقة الورد الحمراء لتختبرني؟
ردّ متهكّماً:
-لا، لستُ أنا. تلك سلة لا تشبهني!
فتح محفظة جلدّية فاخرة سوداء يحتفظ فيها بلوازم غليونه، وراح يحشو الغليون بالتبغ. ترك بينهما شيئاً من الصمت وموسيقى على البيانو تعزفها السّيدة الشقراء. حضر النادل يسأل هل يريدان تحلية. اكتفى هو بقهوة وأحضر لها النادل عربة الحلويات لتختار. اختارت قطعة كاتو بالشوكولا.
قال ممازحاً وملطفاً الأجواء:
-حتّى في الحلويات لا تخلعين الحداد؟
ردّت ضاحكة:
-بإمكاني أن أقاوم كلّ شيء إلّا الشوكولا. هزمتُ الإرهابيين وهزمتني الشوكولا!
126
-رّبما يعنيك إذاً خبر منتجع جديد لمدمني الشوكولا، كلّ خدماته قائمة على الشوكولا. المشروبات، الوجبات الرئيسية، الحلويات، وحتى جلسات التدليك ومغطس الحمام من الشوكولا السائلة.
-هل زرته؟
-لا.. حدّثتني عنه صديقة أمضت فيه عدة أيام. إنها مجنونة شوكولا إيضاً.
شيء ما فاجأها.. أو أزعجها، قالت:
-حتماً يكون انتهى بها الأمر إلى كراهية الشوكولا!
-هذا هو المقصود. أن تُشقى من شيء عبر الإفراط فيه.
-وأنت ألا تحبّ الشوكلا؟
-طبعاً، لكن أنا سيّد شهواتي!
ما الذي جعله في تلك اللحظة ألذ من قطعة الشوكولا التي تذوب في فهما؟ هو ((سيد الشهوات)) و((إله الموائد)) و((سلطان النشوة)) و((الملك)) على قاعة كاملة لا مستمع فيها سواه. أأسرها بقوة شخصيته؟ أم بكل مافعله لبلوغ تلك اللحظة؟ أم أيضاً بسبب طيف المراة ((الصديقة)) الذي تعّمد أن يتركه يعبر كما دون قصد بينهما؟ ماتوقّعت أنّ رجلاً مهووساً بها إلى ذلك الحدّ يمكن أن تكون في حياته امرأة سواها.
هي لاتدري أنّه ضمن أطباق العشاء ترك لها الغيرة.. للتحلية!
شعرت بأنّها بدأت التزلّج على الحبّ. كم من المشاعر الشاهقة والانحدارات المباغتة عاشتها معه خلال ساعتين. أذهلها بتلك الكاريزما التي تعطي كلماته وزناً خفيفاً ورصيناً في آن واحد، لأنّه لا
127
يبدو أنّه قام بجهد للبحث عنها. إنّه لا يقول إلّا نفسه. هذا ما أوقعها في أسرة أيّام كان يحدثها على الهاتف.. حتى إنه أقنعها بمنطق اختبار علاقتهما في مطار، وقبلت قانون اللعبة، فخسرت الرهان!
عندما أخرج بطاقته المصرفيّة ليدفع الحساب، أخرج بطاقة أخرى عليها اسمه الكامل فقط. كتب على ظهرها رقم هاتفه ومدّها قائلاً: ((كلّميني متى شئت)). كان رقماً فرنسياً لا تعرفه.
((الآلهة)) لا تحتاج إلى إضافة أيّ تعريف إلى اسمها. لا تذكر لك مهنتها ومناصبها السابقة أو الحالية، ولا أسماء شركاتها وعناوينها. ذلك من عادة البسطاء وحديثي النعمة من البشر.
هذا ما ستدركه لاحقاً.
كمن فاز في اليانصيب، شعرت بأنّها تملك الرقم السحري، والاسم الذي حيّرها عدّة أشهر.
أمدّ الموظّف بورقة نقديّة. طلب منه أن يطلب سيّارة، ويدفع للسائق أجرته سلفاً. انتظر معها وصول السيّارة، وعندما انطلقت بها فقط ركب خلف سائقه وانطلق.
كان واضحاً أنّ الرجل الذي شغل مقعداً واحداً في القاعة، قد قرّر ألا يُبقي على مقعد واحدٍ شاغر في قلبها.
***
ذلك الموعد القدري معه كان محتوماً.
كان حبّهما ابناً شرعياً لقدر ثمل بتهكّم الأضداد. ((لا تذهبي بقلبك كلّه)) قال لها عقلها. لكنها ذهبت بقلبها كلّه.. وعادت بلا عقل.
128
سألتها نجلاء بلهفة الفضول وقد انتظرت عودتها لتنام:
-هل كان وسيماً؟
-بل كان الوقت وسيماً به.
لم تفهم نجلاء شيئاً من هذه اللغة التي تكلمها بها هالة. عاودت طرح سؤالها:
-طيب، عدا هذا، هل هو جميل؟
-كان كاريزماتياً جداً ويعلم جيداً بذلك. وهذا ما يمنحه جاذبيّة آسرة!
- يعني كان وسيماً!
- وما حاجة الأثرياء للوسامة.. إنّهم يبدون دائماً أجمل ممّا هم. إنّهم جميلون بقدر مايملكون.
في الواقع، ماكانت معنيّة بثرائه، بل بافتقارها إلى الصبر معه. مذ عادت من القاهرة وهي على لهفة لتراه. في حالة دوار عشقي، كأنما إعصار حب يأخذها ريشة في مهبّ هذا الرجل، حتّى من قبل أن يترك لها وقتاً لسبر حقيقته.
هو أيضاً يحتاج إلى رؤيتها مجدداً. غير أنّه ليس على عجل من أمره. الآن فقط بدأت متعته. اللهفة غدت شأنها. هو لم يقل لها شيئاً بعد. وقد يعود ولا يقول لها سوى نصف الأشياء. عن دهاء، بل عن كبرياء، سيحتفظ بنصف الحقيقة لنفسه.
الكبرياء أن تقول الأشياء في نصف كلمة، ألا تكرّر. ألّا تصرّ. أن لا يراك الآخر عارياً أبداً. أن تحمي غموضك كما تحمي سرّك.
129
هو لن يقول لها مثلاً، إنّه يوم رآها في المطار تُحدّق في وجوه كلّ الرجال ماعداه، قرّر أن يثأر لذلك الخذلان العاطفي بموعد لن ترى فيه سواه. يومذاك، وُلدت في ذهنه فكرة أن يحجز قاعة كاملة، تغنّي له فيه وحده. ألّا يأتيها وسط الحشود، بل يكون هو الحشد!
وهي لن تدري أبداً أنه من اقترح على المستشفى هذا الحفل الخيريّ، ثمّ اشترى المقاعد كلّها باسم إحدى شركاته دون أن تُعرض التذاكر للبيع. في الواقع، لا جمهور لها في مصر، ولا كانت جهة ستدعوها إلى حفل خيريّ!
حين هاتفته بعد أيّام، كان هو أيضاً قد غادر القاهرة، ولن يكون من السهل هذه المرّة العثور على عنوان لموعدهما.
ليس من طبعه المجازفة بسمعته. لم تُعرف له أي علاقة نسائية في بيروت، برغم ماعرف من النساء، لاعتقاده أن عليه أن يحمي صورته كرجل ((كامل)). المغامرات الصغيرة.. لصغار القوم! لذا اعتاد أن يغيّر عناوين أسراره من مدينة إلى أخرى. إنّ الأسرار هي ما يُساعدنا على العيش. كم يخسر من لاسرّ له!
على عكسه، لم يكن في حياتها سرّ لتحميه، أو مكسب لتخاف عليه. ماتخافه هو أن يخلط بعد الآن بينها وبين إناث الشهوة، وصائدات الثروة. أن يكون أساء الظّن بها مذ رآها على المسرح تحتضن تلك الباقة الحمراء وتتنازل عن باقته.
اتصلت به بعد أن هزمها الشوق:
-سآتي إلى بيروت الأسبوع المقبل بدعوة من شركة الإنتاج لإطلاق ألبومي الجديد.
130
قالتها كما من دون قصد. ألقت إليه بطُعم ظنّته سيلتقطه فوراً.
لكنّه ما كان سمكة. كان يمتلك صبر صيّاد.. وحنكته. قال على الطرف الآخر للهاتف:
-جميل، يسعدني نجاحك.. وكيف والدتك؟
-جيّدة. شكراً.
ثم أضافت وقد فاجأها السؤال:
-وكيف عرفت بها؟
ضحك:
-أعرف كلّ ما يهّمني.
-صدقاً، كيف عرفت؟
-سمعتك تتحدّثين عنها في أحد البرامج. قلت إنّك غادرت الجزائر برفقتها، بعد الأحداث الأليمة التي عرفتها عائلتكم.
-أنت تملك ذاكرة قويّة!
-بل ذاكرة انتقائيّة. أذكر حتّى الثياب التي كنت ترتدينها في مطار شارل ديغول.. وماركة النّظارة التي كنت تضعينها.. ولون الحقيبة التي كنت تجرّينها!
ارتبكت، فكّرت أنّه لن يغفر لها أبداً تلك الحادثة. وفكّر هو أنّ مايذكره حقاً هو ملامح الرجال الذين قصدتهم. أما ما لا يغفره لها، فهو كونها لم تتذّكر ملامحه برغم جلوسه أربع ساعات بمحاذاتها في الطائرة، وبدت حين دعائها للعشاء وكأنّها تراه أوّل مرّة. أمثله رجل عادي إلى هذا الحدّ؟!
131
لكنّه لن يقول لها هذا. من أخلاق الجنتلمان ألّا يحشر امرأة في زاوية تفقد جماليّة أنوثتها، لأنّه إذذاك سيتبشّع وهو يضعها في موقف غير لائق، ويكفّ عن أن يكون رجلاً!
ودّعها كما لو كان فجأة على عجل.
-هاتفيني من بيروت.. ربّما استطعت أن أرتّب لنا موعداً.
((ربّما))؟! أبأربعة أحرف للشكّ يختصر شوقه لها؟ وكيف لهذه الرصانة أن تلي كلّ ما أقدم عليه من جنون.. تارة ليراها في مطار، ومرّة لينفرد بسماعها في حفل، وأخرى ليحظى بعشاء معها.
كانت حياتها ساكنة حتّى جاء وألقى حجراً في بركة أيّامها الراكدة، مخلفاً كل دوائر الأسئلة. لا تستطيع أن تنكر حقيقة أنّها، منذ ذلك العشاء، لاتنتظر سوى هاتفه.
هي لم تكن يوماً من سلالة نساء الانتظار، لكنّها، من دون أن تدري، في كل ماتفعله الآن، تنتظره. هي لا تحتاج إلى مواعيد عمل لتزور بيروت. كان يمكن أن تحضر قبل ذلك الموعد لو رأت منه حماسة ما، فالمسافة بين الشام وبيروت لا تستغرق سوى ثلاث ساعات. وبإمكانها إقناع والدتها بما تشاء، الذرائع لا تنقصها.. ونجلاء ((الملاك الحارس)) ستدعم مشاريعها، وتمنحها شهادة براءة. لكنّها ستصمد وتسافر في الوقت المحّدد، كما لو أن لقاءه ليس أمنيتها.
حمدت الله أنّ أمّها ألغت في اللحظة الأخيرة فكرة مرافقتها. برد كانون جعلها تفضّل البقاء في الشام.
132
-طريق الشام بيروت خطرة بهالأيام،ساعات تقطعها الثلوج. تأكدي حبيبتي من النشرة الجوّيّة قبل ما تسافري.
نجلاء أيضاً لن تأتي. هي مشغولة بخطيبها العائد من دبي لقضاء الأعياد. لا أحد يرافقها إذاً عدا أحلامها.. أو أوهامها. فهي تذهب إلى الحبّ دون بوصلة تأمين على قلبها.
انتظرت أن تحلّ ضيفة على البرنامج التلفزيوني، عساه يعرف بوجودها في بيروت. لا تريد أن تعطيه انطباعاً بأنّها على عجلة لملاقاته. لكن لا هاتفه جاء،ولا جاءت وروده. ربّما ما عاد من وقت لباقة حبّ إضافيّة.
دهمها حزن من فقد شيء ما كان يدري بوجوده، أو على الأصحّ بقيمته. ربّما أراد أن يقاصصها على باقة ورده التي رآها تسلّمها لقائد الفرقة وتحتضن غيرها. لا تظنّه سيبعث لها ورداً بعد الآن.
اجتاحها الأسى. كحزن بيانو مركون ومغلق على موسيقى لن يعزفها أحد. انتهت ليلتها وحيدة في غرفة في ذلك الفندق الفاخر، تفكّر في تلك الفواتير، التي يدفعها المرء عن غباء، غير مدرك قيمة الأشياء حين تُقبل عليه الحياة في كلّ أبهتها!
***
عذاب الانتظار؟ وماذا عن عذاب ألّا تنتظر شيئاً؟
كان يحتاج إلى أن يكون له موعد مع الحبّ كي يحيا، كي يبقى قيد اشتهائه للحياة، قيد الشباب. الوقت بين موعدين أهمّ من
133
الموعد.والحبّ أهمّ من الحبيب نفسه. وهو لكلّ هذه الأسباب جاهز لحبّها.. أو على الأصحّ جاهز لها.
صباح اليوم الثالث لوجودها في بيروت، هاتفها. أخفت عنه ترقّبها لصوته. لكنّها ما استطاعت أن تخفي فَرْحتها.
-كنت أخشى أن أغادر بيروت دون سماعك.
-ما كان يمكن ألّا أهاتفك.. انشغلت هذه الأياّم ليس أكثر.
أوصل لها إشعاراً بأنّ ثمّة ما هو أهمّ منها في حياته، ومهما كان هذا الشيء فستحزن. ففي سلّم الأولويّات، الحب هو الأوّل في حياة المراة.. ويلي أشياء أهمّ في حياة الرجل.
-هل كان البرنامج الذي استضافك ناجحاً؟
إشعار آخر لها بأنّه لم يتابع البرنامج، هو الذي اعتاد أن يرسل إليها الورود نفسها في كل ظهور تلفزيوني. الحقيقة أنه برمج المسجّل في مكتبه لتسجيل تلك الحلقة حتى لا يشاهدها مساءً في حضرة زوجته، فتعجب لاهتماماته الجديدة.
في اليوم التالي شاهدها في مكتبه وهو يدخّن غليونه، فكّر أنّ عليه أن يغيّر طريقة لبسها.
مسكينة كم أجهدت نفسها لتبدو في شكل جميل، وهي حزينة الآن لأنه قال إنّه لم يرها!
تجيب كما لو أنّها تزفّ له بشرى:
-كان ناجحاً جداً. لقد لقي صدىً طيباً في الإعلام.
يعلّق:
-أنا سعيد من أجلك..
134
يقصد: سعيد من أجله. فقد نجح في إرباكها وإفساد فرحتها. وستحتاج إليه في انكسارها. هي الشهّية كحروف النفي. التي اعتادت أن تقول له ((لا)) و((لن)) على مدى شهر. كأنّه يسمعها الآن تسأل ((هل أراك؟)).
لكّنها تقول شيئاً آخر:
-أتحبّ أن أرسل إليك ألبومي الجديد؟
يفاجُئها جوابه:
-أحبّ ما لا تجرئين على قوله!
حاولت استعادة بعض أسلحتها الدفاعيّة:
-لا أظنّك تضاهينني شجاعة.
- الجرأة غير الشجاعة.
-وماذا تودُني أن أقول؟
-تماماً ما تودّين أن تقولي!
لم يحدث أن حشرها رجل في هذه الزاوية الضّيقة للحقيقة.
واصل:
-الجرأة ليست في أن تواجهي الإرهابيين، بل في أن تحاربي نزعتك لقمع نفسك، وإخراس جسدك، وتفخيخ كلّ الأشياء الجميلة بحروف النهي والرفض. الحياة أجمل من أن تعلني الحرب عليها.. حاربي أعداءها!
استدرجها حيث شاء. قالت ماتمنّت أن تقوله حقاً:
-متى أراك؟
-اليوم طبعاً.. مادمتِ ستسافرين غداً!
-أين؟
-سأزورك في الفندق.
135
-الفندق؟!
-لا لشيء سوى لأنّه المكان الأكثر تستّراً في مدينة لا سرّ فيها. مارقم غرفتك؟
-423.
لفظت الرقم غير مصدّقة تسارع الأحداث، كأنّ الأمور أفلتت من يدها، وأنّ امرأة غيرها تلفظ الأرقام الثلاثة التي ستتحوّل، حال انتهاء المكالمة، إلى أحرف ثلاثة: ((ع ي ب))، تلك التي تحكّمت في حياتها حتى الآن. طبعاً ((عيب)) هذا الذي تقوم به. أغلقت الهاتف وهي تتساءل كيف أقدمت على أمر كهذا.
في الخارج شتاء ومطر جُنّ جنونه. لكنها أكثر جنوناً من الطبيعة. لأّوّل مرّة تجرؤ على استقبال رجل في غرفتها.
أيّ رجل هذا؟ سيّد مطلق يأتي عندما لا ننتظره، يقول ما لا تتوقّعه، يهجرها حين يشاء، يقتحم حياتها متى يناسبه، يشتري صوتها حين يريد، يضرب لها موعداً حيث يحلو له!
راح نصفها الشرس يحاكم نصفها الوديع، ورجولتها تحاسب أنوثتها المطيعة. ألم يقل لها أحدهم متغزّلاً ((أجمل ما في امرأة شديدة الأنوثة.. هو نفحة من الذكورة))؟ مصيبتها كونها اكتسبت أخلاقاً رجّاليّة، وكثيراً ما قست على نفسها كما لو كانت أحداً غيرها. والآن، ما عادت تعرف كيف تعود من جديد أنثى، ولا كيف تستعدّ لهذه المداهمة العاطفيّة.
تأمّلت الغرفة، على جمالها هي أصغر من أن تليق برجل يحجز قاعة كاملة، ليجلس على مقعد واحد!
136
لا تملك لاستقباله سوى أريكتين، وطاولة في زاوية من الغرفة، على شكل صالون. شعرت أنّ الطاولة فارغة وأنّ سلّة الفواكه تحتاج لإعادة ترتيب، وضعت مكانها على الطاولة مزهريّة، كي تبدو الغرفة أجمل.
والآن.. ماذا ترتدي؟ يا الله ماذا ترتدي لاستقباله؟ خلعت ولبست ثوبين أو ثلاثة على عجل، كما لو كانت في سباق.. ومسابقة في آن واحد.
ثم أسرعت إلى الحمّام تجّدد هيئتها، حين تذكّرت أنّه قد يدخل الحمّام، ويقع نظره على لوازم زينتها. أصابع الحمرة ذات الماركات العادية، علبة البودرة التي أشرفت على نهايتها، وما زالت تحتفظ بها. كريمات وأقلام كحل سينفضح بها تواضع جيبها، وعادت اكتسبتها أيّام الحاجة. جمعت كلّ شيء وأخفته داخل الخزانة الموجودة تحت المغسلة وتنفّست الصعداء.
لعنته وهي تراقب الساعة. ثم لامت نفسها لفرط توتّرها، ولأنها قبلت أن تستقبله في غرفتها. ماتوقّعت أن تقدم يوماً على شيء كهذا. لعلّها جُنّت. من يكون ليفعل بها كلّ هذا؟ وكيف سمحت له بإرباك حياتها إلى هذا الحّد؟!
رنّ هاتفها فجأة وقال صوته:
-افتحي. أنا هنا!
راحت دقّات قلبها تتسارع وهي تتّجه نحو الباب. ألقت في طريقها نظرة سريعة على المرآة. وذهبت تفتح الباب للحبّ. أيّ حدث مشهدي أن يجيء ذلك الرجل. أن يدخل. أن يغلق الباب خلفه.
137
لكنه، لا يقبّلها ولا يصافحها. لا ينحني كأوّل مّرة ليقبل يدها ولا ينظر حتّى لعينيها. اجتاز باب الغرفة وهو يدّقق في هاتفه، ليمحو الرقم الذي طلبه لتوّه.. رقم هاتفها!
كم من الأحلام كانت ستتهشّم داخلها، لو هي انتبهت أنّه كان يتبرّأ منها، وهو يقصدها، خوفاً من أن يقع أحد على رقمها مسجّلاً على هاتفه!
أعاد إلى جيبه الهاتف ممحواً منه رقمُها. حينذاك فقط قال: ((أهلاً))، مسترقاً نظرة إليها. اتّجه صوب الأريكة، كما لو كان جاء ليرتاح قليلاً. مدّ رجليه دون أن يفقد لياقته.. ونظر أخيراً إليها.
***
كان يحتاج إلى أن يُجنّ بين الحين والآخر، ولو كذباً، ليمارس على الحياة سطوة ذكائه الرجّالي كسارق لن يُمسك يوماً بالجرم المشهود. شيء شبيه باللعبة يمارسها مع أنثاه الحقيقيّة: الحياة.
يحتاج إلى أن يجازف إكراماً لتلك اللحظات الباهرة في بذخها. الباهرة لا الباهظة. فلا علاقة نسائيّة تستحقّ أن يخسر من أجلها مكاسبه الاجتماعيّة. وهذه إحدى المرّات النادرة التي سيلتقي فيها امراة في بيروت. للجنون عادة عناوين مدن أخرى. وهو احتاط لكلّ الاحتمالات، مستفيداً من وجود ضيف له، حضر من باريس، فدعاه إلى العشاء في الفندق نفسه برفقة مدير أعماله.
138
كان يحتاج إلى غطاء لدخول الفندق، وللجلوس في صالة رجال الأعمال الكائنة في آخر طابق. ثمّ سيسهل عليه الاعتذار، والتغّيب بعض الوقت متذرّعاً باتّصال طارئ.
سألها بذلك الاشتهاء الملتبس:
-كيف أنت؟
كانت شفّافة المزاج كبيتٍ مسيّج بالزجاج، ما كان لباطنها من سرّ. لذلك كان يسهل عليه مطالعتها، أو مطالعة الاجوبة التي تحتفظ بها لنفسها.
ردّت وهي مازالت واقفة:
-أنا جيدة.. شكراً.
تأمّلته. كان جالساً وهي واقفة. اكتشفته من زاوية جديدة للرؤية.
لم يكن يشبه رجلاً كانت تتصوّر أنّها ستحبّه. لكّنها تحّبه. بأناقته الفائقة. بتفاصيله المنتقاة بعناية ككلماته. بإبتسامته الغامضة. بتعليقاته الماكرة. كما حين يردّ على ذعرها من استقباله:
-الحبّ سطو مشروع.. لا علاقة شرعيّة.. عليك أن تعيشيه هكذا – مواصلاً بعد شيء من الصمت – اجلسي.. لماذا أنت واقفة؟ نحن في فندق راق لن يفتح الباب أحد.. أو ضعي على الباب ((الرجاء عدم الإزعاج)) إن كان هذا يُريحك!
ذهبت تطّبق نصيحته من دون أن ترتاح تماماً. ماذا لو كان الخطر الآن في الداخل، لا من خارج الغرفة!
ما أدراها ما يجول في رأس هذا الرجل؟
139
عادت لتجلس مقابلة له على الأريكة الثانية. قال وهو يزيح قليلاً المزهريّة التي تحجب الرؤية بينهما:
-ساقي الورود ليس من سيقطفها، ولا قاطفها من ستنتهي في مزهريّة في بيته!
لم تحاول أن تفهم ما أراد قوله. استفادت من تداعيات الكلام..
قالت:
-لقد وصلتني هذه الباقة هديّة.
تعمّدت ألّا تقول ممّن عساها تثير غيرته أو فضوله. لكّنه علّق:
-إنّ من يهدي ورداً يقدّم انطباعاً عن نفسه.
أدركت أنّه يستخفّ بذوق من اختار تلك الورود.. قالت:
-لكلّ ذوقه.. شخصياً، لم أفهم لماذا تحبّ زهرة التوليب بالذات، وذلك اللون البنفسجي الغريب.
-لأنّها زهرة لم يمتلك سرّها أحد. لونها مستعصٍ على التفسير، يقارب الأسود في معاكسته للألوان الضوئيّة. إنّها مثلك وردة لم تخلع عنها عباءة الحياء، ثمّة ورود سيئّة السمعة تتحرّش بقاطفها.. تشهر لونها وعطرها، هذه ستجد دائماً عابر سبيل يشتريها.. كتلك التي قُدّمت لك في الحفل!
قالت كأنّها تتبرّأ من الباقة:
-للمناسبة، علمت أنّها كانت التفاتة من إدارة المسرح، لوضع لمسة بهجة في ختام الحفل، لا يمكن للجميع مقاسمتك ذوقك.. لكلّ وردته، لعلّك اعتدت أن تهدي هذه الوردة تحديداً، أعني ربّما كانت وردتك..
قاطعها:
140
-بل هي وردتك. لم أهدها قبل اليوم لأحد. لمحتها مرّة في محلّ للورود وعجبت لغرابة لونها. عادة أهدي نوعاً آخر.
أكان عليها أن تسعد لأنّه لم يهد ((وردتها)) من قبل لأحد؟ أم تحزن لأنّه أهدى وروداً لغيرها؟ ألكلّ امرأة في حياته وردتها الخاصة؟
هذا البستاني الذي يُقسّم النساء إلى فصائل وأجناس من النباتات، تحتاج هي المعلّمة إلى أن تتعلّم أبجديّة الزهور، لتفهم ماذا أراد أن يقول لها طوال هذه الأشهر.
قالت ممازحة:
-ربّما عليّ أن أتعلّم لغة الورود قبل التحاور معك.
ردّ مصحّحاً:
-ليست قضّية لغة، بل قضّية أناقة، لا أكثر أناقة من وردة لا تثرثر كثيراً. نحن لا نُهدي وروداً لتتّكلم عنّا.. بل لتحمي التباس ما نودّ قوله.
-وماذا أردت أن تقول في النهاية؟
-في النهاية؟ لكننا لم نبدأ بعد.. عندما نبلغ النهاية، لن يبقى ثمّة مانقوله.
هو يعني لن يبقى ثمّة مانهديه. هذا مافهمته.
أيّ رجل هذا؟ لم يكن جميلاُ، بل أكثر. كان يملك ثقافة الجمال، أو ربّما كان جميلاً كما هم العشّاق، كما هم الأساتذة بالنسبة لتلاميذهم. وهي الآن تكتشف مكمن ضوئه. كأنّها تجلس مكان تلاميذها لتستمع إليه يلقي درساً في مادّة لم يعّلمها إيّاها أحد:
مادّة الحياة.
141
نهضت تخفي ارتباكها بسؤال:
-أتودّ أن تشرب شيئاً؟
لكنّه نهض بدوره وقال معتذراً:
-ثمّة من ينتظرني على العشاء. لقد سرقت بعض الوقت لأسلّم عليك ليس أكثر.
وقفت مذهولة وهي تراه يتّجه صوب الباب. مشت خلفه بتأنٍّ كما لتستبقيه وقتاً أطول غير مصدّقة أنّ أجل فرحتها انتهى. فقدت صوتها. لا تدري أيّهما كان الأكثر زلزلة لقلبها: مجيئه أم مغادرته. وقفت خلف الباب المغلق تودّعه صمتاً. كزهرة توليب خذلتها الريح، انحنى رأسها قليلاً. كان يراقب انكسارات روحها. تذكّر أنّه في الميثولوجيا، لم تكن الزهور سوى صبايا قتلتهن العاطفة، فتحوّلن إلى زهور. هذه امرأة من سلالة الزنبق، تحتاج إلى أن يسندها بقبلة.
ترك شفتاه تلتهمان ما تمنّاه طويلاً. قبلة بمذاق التوت البرّي. كان محمولاً بأحاسيس وحشيّة بعد أشهرٍ من الاشتهاء. راح في قبلة واحدة يشعل حطب الانتظار كلّه. انقضت سنة كاملة، بُعداً وصداً، ومداً وجزراً، لبلوغ حريق كهذا. آن قطاف هذه الزهرة الناريّة.
لم يُضف كلمة إلى تلك القبلة. فتح الباب ودلف إلى الخارج، بعد أن أودع جناحيها للنار.
في مرآة المصعد، تفقّد هيئته، وحين اطمأنّ لمظهره، ابتسم.
هو يدري أنّه من تلك المحرقة ستولد فراشة تحتاج إليه بعد الآن كي تطير.
سيّد القدوم الآسر و الانصراف الباكر.. مضى، وظلّت هي واقفة، مستندة إلى جدار النشوة، لا تدري ما الذي حلّ بها.
142
في أسطورة ((الجميلة النائمة)) تُوقظ قُبلة من أمير تلك الجميلة النائمة منذ دهر. تفكّ عنها سحر ساحرة شرّيرة حكمت عليها بالنوم المؤبّد.
في أسطورتها هي، يقع عليها السحر مُذ يضع ذلك الرجل العابر شفتيه على شفتيها. شفتان قبضتها على قدرها، وتركتاها في غيبوبة النشوة، تحت تأثير الخدر العشقي، كما في نوم لذيذ.
ظلّت مسندة ظهرها إلى الجدار، عاجزة عن التفكير أو الحركة، لا تريد أن تستيقظ من سحرها.
هو لم يهبها قبلة.. وهبها شفتيها، فما كان لها قبلة من شفتين!
((حين تخجل المرأة، تفوح عطراً جميلاً
لا يخطئه أنف رجلاً.))
كان له قوّة ونضج رجل صنعه ثراءَّه بذكائه. لكنّه ما كان يبدو رجل أعمال. في الواقع هو يحترف الحياة. لا عمل له سوى ممارستها. يإمكانه أن يدعو أسماك القرش إلى طاولته، من دون أن يشاركها في شهيّتها للدم.
كان الدلفين المسالم وسط حيتان المال. شراسته وأذاه يحتفظ بهما للمرأة التي يعنيه أمرها. لفرط إصراره على الاستحواذ عليها، سيدميها دوماً، ويتركها تنزف من ظلم فقدانه وسط الأمواج العاتية للحياة.
هو نفسه لا يدري لماذا فعل ذلك بكلّ امرأة أحبّها أو توهّم حبّها.
كان يعاني عجزاً عاطفياً يحول دون تسليم قلبه حقاً لامرأة.
ربّما لم يُشفَ من خيانة المرأة الأولى في حياته، تلك التي تخلت عنه لتتزوّج غيره. طوال عمره، سيشكّ في صدق النساء، وسيتخلىّ عنهنّ خشية أن يتخلّين عنه. كشهريار، سيعاقبهنّ على جريمة لا علم لهنّ بها.
146
وهذه الفتاة التي قبّلها لتوّه وذهب للعشاء.. رغم اشتهائه لها، وثقته بكونها لا تشبه غيرها، سيُبقيها على جوعها إليه حتّى تستوي. يخفّف النار حيناً ويضرمها حيناً، ويصبر حتّى تحين وليمتها.
عندما تتقن فنّ الطبخ، أنت حتماً تعرف كيف تعدّ مائدة حياتك، وكيف تطهو رغباتك. متعتك تبدأ بالإعداد للمتعة، من إحضار لوازم أطباقك، ومد مائدة انتظارك.
مباهج المائدة مهنته، وإلّا ما كان نجح في امتلاك سلسلة من أشهر المطاعم عبر العالم.
ما يعنيه الآن أكثر، هو الأرض التي اشتراها قبل أشهر. سيسافر غداً بصحبة المهندس لدراسة مشروع تحويلها إلى مطعم عائم فاخر. لا يمكن أن يدخل الخليج إلا بمشروع لم يسبقه إليه أحد، لا يدري في أيّ عمر ولا متى وُلد حلمه. مطعم أقدامه في البحر، وجدرانه أكواريوم تسبح فيها أسماك بلوحات لونيّة مبهجة. أمّا الأرضيّة فيتصوّرها كثباناً رمليّة منخفضة، تتناثر عليها الأصداف المختلفة الأشكال، يرتفع فوقها على علو نصف متر زجاج يميل إلى الزرقة يوحي لمن يمشي فوقه أنه يمشي على البحر. الطاولات ستكون بتصاميم عصرّية من الزجاج الفاخر، بألوان بحرّية متدرّجة. وستكون قليلة ومتباعدة. الرفاهية والفخامة تقتضيان ذلك!
المشاريع عنده تولد أحلاماً بألوانها وتفاصيلها، كل ما يحتاج إليه مهندس يضاهيه جنوناً. وأحياناً أكثر من مهندس ليتناوبوا على تجسيد أحلامه. كما في البيت الذي اشتراه في ((كان))، وأصرّ على أن يستحدث في حديقته هضبة صخريّة ينزل منها شلاّل
147
اصطناعي يعبر تحت جسر خشبيّ. هو مهووس بالنوافير الرومانّية والأندلسيّة، الجداريّة منها والدائريّة. يحتاج إلى بهجة منظرها، وصوت خرير الماء، كإحدى سمفونيات الكون، كي يستعيد طمأنينته في عالم صاخب.
قلما خذلته أحلامه لاعتقاده أنّ كّل ما يحلم به المرء قابل للتنفيذ. وحيث تصل أحلامك بإمكان أقدامك أن تصل.
كلّ ما حقّقه في حياته سبق أن عاشه كرؤيا. يوم سافر قبل ثلاثين سنة إلى البرازيل، كان يدري أنّه سيعود إلى لبنان أكثر ثراءً، ممّن دعوه من أهله للإقامة بينهم، حتّى تهدأ الحرب الأهليّة. ما أحزنه هو ترك دراسته في بداية السنة الجامعيّة. لن يكون يوماً أستاذ أدب مقارن، ولا أستاذ فلسفة... المادّتين اللتين كان يحبّهما أكثر من سواهما، ربّما بحكم الحياة التي عاشها، والتي لم تكن له من عائلة فيها سوى الكتب.
ثم إنّ بيروت السبعينيّات كانت مهووسة بالثقافة والتنظير. الكلّ كان فيلسوفاً على طريقته، جاهزاً، أياً تكن مهنته، لأن يصبح كاتباً، أو صحافياً، أو شاعراً.. بقدر هوسها اليوم بتخريج جحافل المتخصّصين في إدارة الأعمال، والمصرفييّن، وخبراء الكومبيوتر، وجرّاحي التجميل.
تغّير العالم إلى حدّ لن تعثر فيه اليوم على أحد يباهي بأنّ ابنه يدرس ليصبح أستاذاً في الأدب، أو في الجغرافية، أو في التاريخ، أو الفلسفة. وظائف كثيرة مهدّدة بالتطهير المهنيّ وقد تنقرض ذات يوم لأنّه ليس لأحلامها من جيوب.
148
هل كان سيهاجر لو حقّق حلمه بأن يصبح أستاذاً للأدب المقارن؟ وأيّ ثراء غير الثراء الفكري كان سيجنيه من أصدقائه الإغريق، الذين حزن يوم استبدل بهم مطعماً لبنانياً متواضعاً في ريو دي جانيرو؟
لاحقاً، أدرك أنّ ((ما قد يبدو لك خسارة قد يكون هو بالتحديد الشيء الذي سيصبح في ما بعد مسؤولاً عن إتمام أعظم إنجازات حياتك)). كانت ضربة حظّ أوصلته إلى إطلاق مشروعه في بلاد يقيم فيها أكثر من خمسة ملايين برازيلي من أصول لبنانيّة.
في ذلك المطعم وُلد حلمه بامتلاك مطعم للوجبات اللبنانيّة السريعة. يكون مشروع سلسلة مطاعم عصريّة، على الطريقة الأميركيّة، تتمركز حول الأحياء الجامعيّة. الوجبات فيها مصوّرة ومعلنة برقمها، وسعرها محدّد حسب بشكيلتها. كلها من المطعم اللبناني، حتى قطعة الحلوى، ومشروب الجلاّب بالصنوبر. وحين افتتح بعد خمس سنوات مطعمه الثالث في ذلك الحيّ الجامعي، لمح في إحدى زياراته تلك الفتاة اللبنانيّة اللافتة الجمال تتردّد على مطعمه. كانت تدرس الحقوق وتحلم في الواقع أن تعمل في المسرح. فتاة أنيقة رصينة في بلاد السامبا.. إنّه شيء نادر.
كان يدري بعد أوّل موعد جمعهما، أنّها برغم الاسم العائلي الكبير الذي تحمله، ستكون له وستحمل اسمه. قال لها بما اكتسب من خبرة في إحكام شباكه: ((حبّنا هو أوّل قضيّة عليك كسبها.. سأمنحك فرصة المرافعة لتكوني امرأة حياتي)).
لكأنّه لفظ جملة سحريّة. وقعت الفتاة بين يديه كتفّاحة آن قطافها. فعلاً، كان عليها أن ترافع طويلاً وبإصرار، دفاعاً عن مشروع حياتها. فهي تريد هذا الرجل. شيء ما فيه يأسرها، ولا يعنيها أن لا يكون
149
له اسم ضارب في جذور شجرة عائلية كبيرة.. ولا ألّا يكون من أصحاب ((المهن النبيلة)) التي يصرّ عليها والدها. فلا ينقص عائلتها المحامون ولا الأطبّاء ولا السياسيون، ولا بأس أن ينضمّ إليهم قريب يعمل في مهنة حرّة، ولا يملك الشهادات التي يزيّنون بها مكاتبهم وعياداتهم.
حارب والدها هذا الزواج بما استطاع من إغراءات، ثم من تهديدات، لاعتقاده أن فتاة في العشرين من عمرها غير أهلٍ لاختيار مستقبلها.. ولأنّها البنت الوحيدة بين شابّين، ولا يريد أن يراها تتعذّب مدى حياتها، بسبب خطأ اقترفته في شبابها. ثم استسلم لرغبتها حين رأى في ذلك الفتى المتّقد ذكاءً وطموحاً، والمتمتّع بأخلاق عربيّة عالية، ما يطمئنه، فأكثر ما كان يخشاه في بلدٍ قائم على خليط الأجناس أن تأتيه ابنته يوماً برجل من متشرّدي التاريخ أو الجغرافية.
لم ينس لها يوماً أنّها اختارته قبل أن يكون له اسم وجاه، ولا أنّها منحته صباها وابنتين في جمالها. حرص على ألّا يؤذيها يوماً، ولا أن تسمع عنه ما يؤلمها. قرّر أن يصنع له اسماً تباهي به أهلها. ربح التحدّي حين بعد أربع سنوات من زواجه بها، نزلت عليه ثروات ماتوقّعها.
اجتاز بوّابة الأحلام كما لو كان يمشي في نومه. ماعاد يحتاج إلى أن يطالع حظّه في فنجان قهوة. لقد غدت القهوة حظّه وباب ثروته، مذ شاء حسن طالعه أن يهّتم بتجارة البنّ، وأن ترتفع أسعار البنّ في الأسواق العالمّية، ارتفاعاً تاريخياً، بحيث حقّق في سنتين، ما أجلسه على إمبراطوريّة تجاريّة، أصبحت تشمل سلسلة المطاعم،
150
وتجارة البنّ، والعقارات التي راح يستثمر فيها أمواله. حينذاك قرّر أن يدخل سوق الرفاهية، ويشرع في تحقيق ما حلم به دوماً: الاستثمار في عالم من الفرادة والفخامة، لا يدخله إلّا من لا تعرف أحلامه التواضع. لن يقبل بعد الآن بأقلّ من التميّز. فما الترف سوى أن لا تشبه العامّة في شيء، حتّى عندما يتعلّق الأمر بإرسال باقة ورد!
***
كان بإمكانه أن يجنّ بامرأة، ويحتفظ على رغم ذلك برأسه فوق الماء. رجل ((برمائي)) تدرّب على الصمود في وجه الرغبات. ((جميل أن تقاوم الإغراءات، هذا يرفع من معنويّاتك)) كان يقول لنفسه!
أمّا هي، فلم تعرف الحبّ، ولا تذكر أنّ رجلاً قبله قبّلها. لذلك غرقت في تلك المتعة، وظلّت لأيّام تتّنفس تحت الماء!
عادت إلى الشام من دون أن تغادر الغرفة 423. إنه احتلال غير معلن، من رجل شرع في اجتياحها رويداً رويداً، وهي الآن كائن مُحتلّ تهذي أنوثتها به، لا هوس لها إلّا رؤيته وسماعه مجدّداً.
فجأة أصبح الهاتف نوعاً من أنواع الاستعباد والإهانة أيضاً. عندما لا يردّ أحد على الطرف الآخر، كما لو أنّك لست أحداً، ولأّنّه مشغول بما هو أهمّ منك.
طلبته مرّتين على جوّاله. أطال هاتفه الرنين، وعندما لم يردّ، قرّرت ألا تعاود الأتصال به. لكنها ظلّت في انقطاعها عنه تقيس حجم الإهانة، كما لو كانت تحمل داخلها عدّاداً.
بعد ثمانية أيّام، على الأصحّ بعد سبعة أيّام ونصف اليوم، بالتحديد بعد 192 ساعة، من تلك الساعة التاسعة مساءً، التي زارها
151
فيها في الفندق، ظهر رقمه ذات صباح على الهاتف كهلال عيد. قاومت إلحاح رنينه، وهدّدت يدها بالقطع إن هي ضعفت وردّت عليه. قرّرت أن تكون فرحتها، في إفساد فرحته بسماعها. أمرت قلبها أن يكابر، أن يثأر لكرامة شفتيها.
كيف تسنّى له تقبيلها بذلك الولع، ثم الانصراف إلى شؤونه كأنّ شيئاً لم يحدث، كأنّها منحته ما اعتاد امتلاكه بحكم ثرائه؟ لقد اشترى صوتها مرّة لمدّة ساعتين، لكنّه الآن، بكّل ما يملك من مال، لن يشتري كلمة منها. هي قادرة على عنف عاطفي لا عهد له به، ولا يتوقّعه من امرأة.
ليس البكاء، بل الكبرياء، هي الأداة الملائمة في موقف كهذا.
وهي، في هذا المجال بالذات، لا تحتاج إلى دروس. إن كانت مبتدئة في الحبّ، فهي طاعنة في التحدّي!
هذا ما لم يتوقّعه منها. ما كان مهيّأًّ لمعركة كهذه، ولا لهزيمة بعد نصر. فقد اعتقد أنّه حسم أمر هذه الفتاة، وكسب كلّ الجولات في قُبلة واحدة. هو لايفهم تمرّدها على نعمته، ولا عدم تقديرها لمجازفته بزيارتها في غرفتها، وسرقته بعض الوقت بين الحين والآخر لمهاتفتها. بينما ما عادت هي تتقبّل فكرة أن يتصرّف بها هذا الرجل كيفما شاء، وأن يمّن عليها بالحبّ والاهتمام، فقط حين يسمح له وقته بذلك.
مذ قرّرت أن تقاطع هواتفه، استعادت عافيتها، أو على الأصحّ، خفّ ألمها. منذ اللحظة التي طلبها ولم تتحّرك يدها للردّ عليه، بدأ العداد يعمل لمصلحتها، وما عاد عليها أن تعدّ الأيّام والساعات وتفكّر ماذا عساه يشغله عنها. تركت له وجع الأسئلة.
152
قرأت يوماً أنّ راحة القلب في العمل، وأنّ السعادة هي أن تكون مشغولاً إلى حدّ لا تنتبه معه أنّك تعيس، فهجمت على العمل طمعاً في نسيانه.
قررت أن تسجل نفسها في ((الكونسيرفاتورا)) كي تتعّلم أصول الغناء. وكانت لها أمنية سريّة أخرى، أن تتعلّم العزف على العود، كي تعزف على العود الذي تركه والدها، وهو كلّ ما أنقذته حين مغادرتها الجزائر. كان العود أخاها في اليتم.. فلمن تتركه؟ لعمّها الذي يرى فيه أداةً شيطانية قد يكسرها ليكسب ثواباً؟ كانت ترى في ذلك العود أثمن ما ترك والدها، الذي لم يمتلك يوماً ثروة. ككلّ عشّاق الحياة، كان قدرياً، وككّل بائعي البهجة، ماترك مالاً، قضى عمره يُغني ونسي أن يَغنَى.
لأوّل مرة، أحضرت ذلك العود من حيث خبّأته، حتّى لا يكون على مرأى دائم من والدتها، فيزيد من حزنها. أخذته إلى فراس، صديق يحترف العزف، وبإمكانه إيداعه لدى حرفي يمكنه إصلاح ما ألحقه الرصاص بالعود من ضرر.
طمأنها فراس إلى إمكان إنقاذ العود بعد أن تفحّصه ملياً، ووجد طرافة في عودته بعد ثلاثين سنة إلى بلده الأصلي جريحاً، ليتعافى من رصاص اخترق صدره أثناء غربته. سألها وهو يعيده إلى غلافه:
-كيف حدث ذلك؟
مَن لغير عازفٍ بإمكانها أن تحكي تلك القصّة.
قصّة أبيها الذي مات ذات مساء، وهو عائد من حفل زفاف كان قد غنّى فيه. إحدى فرق الموت وضعت نهاية لصوته. آخر موسيقى
153
سمعها.. موسيقى الرصاص. كان برفقة أحد العازفين في طريقهما إلى السيارة. سقط كلاهما متّكئاً على آلة عزفه.
عندما جاؤوا بجثمانه مع العود، حمدت الله أنهم لم ينسوا عوده أو يسطوا عليه. رغم المصاب وتدفّق الناس على بيتهم، حال سماع الخبر، حضرتها فكرة إخفاء العود. ربما عاد أحدهم لكسره، أو لمواصلة إطلاق النار عليه، فلعلّ رصاصة واحدة لاتكفي، وينبغي إفراغ مسدّسٍ في تلك الآلة الشيطانيّة.
كان العود قد اقتسم الرصاص مع سيّده، كما يقتسم حصان النيران مع صاحبه في معركة. وكما يعود حصانٌ جريح حاملاً جثة صاحبه، عاد العود إلى البيت، معلناً موت مَن ظلَّ رفيقه مدى ثلاثين سنة، منذ أيام حلب يوم قصد أبوها سوريا لتعلّم الموسيقى، فكان أوّل عود اقتناه بالتقسيط لفخامته.
من الأرجح أن يكون أبوها قد احتمى بالعود، أو أن العود حاول أن يفديه، ويرّد عنه الرصاص، فما استطاع بصدره الخشبي أن يتلقى عنه سوى رصاصة واحدة، وذهبت اثنتان نحو رأس والدها فسقط متكئاً عليه.
ما كان لأبوها عداوات. لم يهدده أحد، ولا جادل يوماً أحداً. لكنّ الموت كان يثرثر من حوله. هل كان اغتياله بسبب غنائه قبل أيام في زفاف ابن أحد الموظفين؟ أم أن موته كان مبرمجاً من قِبل جماعة تعرف عاداته، وتفاصيل تنقلاته، وساعة عودته.
كان يمكن للقتل أن يكون لأي سبب، ويمكن للقاتل أن يحمل أيّ وجه. فالكلّ يشكّ في الكلّ. وكلّ دم مستباح، حتّى دم الأقارب والجيران، ما دام القاتل مقتنعاً بأنّه يقتل بيد الله لا بيده.
154
ذهبت شكوك أمها نحو جارهم، شاب في أواخر الثلاثين، عاطل من العمل، أو لعلّه يعمل لحسابه الخاص رجل تحرّ بدوام كامل، متكئاً على الجدار المقابل. مثله مثل بعض من، لسببٍ ما، يقتلون الوقت بقتل الآخرين. تدريجاً تغيّرت تصرّفاته، وبدا لصمته المريب يوحي بالحذر. ماذا يفعل شاب تزوّج للتوّ طوال الوقت في الشارع؟ صحيح أنه يقيم عند أهله، ولكن.. أليس له نهار ولا ليل؟ ثمّ إنّ زوجته لم ترافق والدته لتقديم العزاء. ادعت أمه أنه تعذر عليها الحضور بسبب حملها. لعلّ أمّه حضرت عن إحساس صادق بالحزن، ولا تتوقع أن يكون ابنها هو القاتل، لكنه مارس سلطته على زوجته المبرقعة، لمنعها من أن تُعزّي في مغنً يُروّج لـ((بضاعة الشيطان)).
ثمّ كيف أنّ هذا الشاب الذي كان يستوقف ابنها ليحدثه طويلاً في الشارع، قبل أن يلتحق علاء بالإرهابيين، لا يرى من الواجب أن يسلّم عليها عندما تمرّ بمحاذاته بالشارع، وهي في عمر أمّه، بل يتحاشاها كما لو كانت نبتة نجسة؟
أصبح للقاتل اسم لدى أمّها، لكن وحده قلبها يملك الأدلّة، فوحده، لإحساس غامض، لا يقوى على رؤية عمّار. ثُم فجأة، اختفى عمار بعد أيام من مقتل والدها، ولم تجرؤ أمّها على سؤال والدته. أين اختفى؟ هل هو مخطوف؟ مقتول؟ أم مقاتل تحت ألوية المجرمين؟ لا أحد يسأل أين يختفي الشباب فجأةً. فقط عندما يموتون يعلم الناس بذلك.
بعد عام، نزل عمّار من الجبال ((أميراً)). رفعته جرائمه إلى مقام ((أمير كتيبة)). عاد مع التائبين، مغسول اليدين من جرائمه، بحكم قانون العفو العام. لكن من يغسل قلب أمّها النازف؟ وأيّ قانون
155
ينسيها ترمّلها وثكلها؟ ماذا لو كان عمّار خلف مقتل علاء أيضاً، كما كان خاف التحاقه بالإرهابييّن؟ إن لم يكن يد القتلة، فهو عينهم.
لعلّ ما روته لفراس، وهي تُعري وجدانها في حضرته، أكسبها صديقاً في وسطٍ لا صديق لها فيه. أصبحت تهاتفه وتلتقيه بين الحين والآخر، مذ وجدت منه تعاطفاً مع مأساتها. هو يملك خصالاً رجوليّه تعشقها، كما أنه من حلب، مدينة أخوالها، وهي سعيدة بوجودها معه على حافة أحاسيس جميلة لا اسم لها، منها أنه يذكّرها بعلاء.
اقترح فراس أن يبدأ بتقييم مدى استعدادها للعزف، وأن يتابعها في البداية، ثم يوجهّها نحو صديق يراه أفضل منه لمهمّة كهذه. استنتجت أنه يتمنّى أن يراها أكثر.
قال:
-يمكنني إن شئت أن أساعدك، لكن ذلك يحتاج إلى أن نلتقي مرتين في الأسبوع، انت في حاجة إلى كثير من الإصرار والمثابرة، فليس العزف أمراً سهلاً إن لم يُباشَر على صغر، لكن إن كنت جادة، فستنجحين، لأن علاقتك العاطفية بهذا العود ستجعل منه آلة سحرية في يديك.. إنها آلة تشبهك.
سألته متعّجبة:
-تشبهني؟ كيف؟
أجاب:
-يُحكى أن العود سئل هل ثمّة آلة موسيقية أجمل منه، وأشدّ تأثيراً على الروح، فأجاب بغرور وهو يردّ رأسه إلى الخلف ((لا)). من ذلك اليوم ورأسه معقوف إلى الوراء بكبرياء.
ضحكت. أحبّت غزله الموارب.
156
غادرته سعيدة. كانت قبل ذلك اللقاء، كعود غير مشدود الأوتار، لم تضبط أوزانه. لكأنّ فراس أعاد دوزنتها عنفواناً، وساعدها على إبقاء رأسها مرفوعاً.
***
كان أكثر انشغالاً من أن يتنّبه لقطيعتها الهاتفّية. حاول الاتصال بها مرّتين ولم تردّ، ظنّ هاتفها على الصامت، توقّع أن تعاود مهاتفته، لكنّها لم تفعل، وعندما امتّد صمتها إلى أن قارب الشهر، بدأ يساوره الشكّ. أتكون تعمّدت أن تُطيل انتظاره؟ أيُعقل أن تجرؤ على أمر كهذه؟ هو الذي تتهافت الاتصالات عليه؟
عادةً، عدم الردّ هو ترفه الشخصيّ، والاختفاء لأيّام، ثم العودة دون تقديم عذرٍ أو اعتذار، لعبة يتقنها. بل هي عادة اكتسبها بحكم مشاغله، كما مزاجه. هو يحتاج إلى مسافة للاشتهاء، إلى الانسحاب من أجل الشوق المستبدّ مداً وجزراً.. وصلاً وهجراً. لكنه من كان يأخذ المبادرة دوماً ذهاباً وإياباً، ولم يحدث لامرأة أن أحالته إلى هاتف خارج الخدمة.
حاول أن يستعيد تفاصيل موعدهما الأخير، لعلّه يعثر على سببٍ لعتَبها. أيكون ندماً متأخّراً على قبلته تلك؟ يدري أنّ له شفتين مجرمتين، بإمكانهما اغتيال امرأة بقبلة، لكنّه كان أيضاً سيغتالها لو أنه لم يقبّلها!
لعلّها مريضة.
راوده هذا الاحتمال. في الواقع كان معنياً بالعثور على ذريعة مشرّفة للاتّصال بها، أكثر ممّا هو معنّي بصحتها. إنّه الفضول.
157
رفع السمّاعة وطلب رقمها. لم يصدّق السرعة التي ردّت بها. لكن بعد كلمتين وجد نفسه أمام صوت آخر:
-ألو.. أيوه.. أهلين.
هذه ليست لهجتها ولا هو صوتها، وهو غير مهّيأ لمفاجأة كهذه.
-ممكن أحكي مع هالة من فضلك؟
-هالة مسافرة. مين بقلّها؟
السؤال أنساه مفاجأة خبر غيابها. لكنّه دوماً وجد الحيلة المناسبة في موقف كهذا.
-أنا صحافي من تلفزيون C B S أودّ الاتّصال بها بخصوص لقاء تلفزيوني..
أعطاها اسم قناة أجنبية تفادياً للأسئلة، ماتوقع أن يخدمه هذا الخيار.
-هي في فرنسا منذ ثلاثة أيّام. يمكنك معاودة الاتصّال بها.
-عذراً، لكّنني أحتاج إلى أخذ موافقتها في أقرب وقت لهذا اللقاء. أتعلمين متى تعود؟
-ليس قبل عشرة أيّام، لقد رافقت خالتها لإجراء عمليّة في باريس.
ردّ متعجّباً:
-باريس؟
أجابت:
-لا أحد كان يستطيع مرافقة خالتها. وحدها تملك تأشيرة سفر إلى فرنسا.
-هل ثمّة طريقة للاتّصال بها؟
-لا أملك إلّا رقم هاتف فندقها.
158
-لا بأس، أعطيني إيّاه من فضلك. سأهاتفها كسباً للوقت.
أغلق السمّاعة وضحك في سرّه، وهو يُعيد مفكّرته إلى جيبه وعليها رقم هاتفها ورقم غرفتها.
لا أكثر سذاجة من النساء. غبيّة قبل أن تُجلسها على كرسيّ كهربائي للاعتراف، تتطوّع بإعطائك من المعلومات أكثر ممّا تتوقّع. وأخرى تعتقد أنّها، حيث هي، أبعد من أن تطالها. في الواقع، ما توقّع تلك الصغيرة والغريبة قادرة على الهجران، ولا تنبّه لقدرته على الوقوع في شرك المسافة التي تفصله عنها.
المسافة؟ سيحطمها غداً.
راح يحشو غليونه ويبتسم. يحلو له منازلة هذه الفتاة. فليكن، سيواصل معها لعبة التحدّي.
اليوم التالي، رنّ الهاتف في غرفتها بالفندق. كانت منهكة وجائعة. غادرت الطاولة الصغيرة التي كانت تتناول عليها ما أحضرته في طريقها من طعام إلى العشاء، ورفعت السمّاعة وهي تواصل قضم مافي يدها. ما كانت على عجل، فهي لا تنتظر اتصالاً من أحد. لقد غادرت للتوّ خالتها في المستشفى ووضعُها في تحسّن. كما توقّفت في الطريق لتكلّم أمها من مقصورة هاتفيّة كما تفعل كلّ يوم. حتماً لم تتوقّع أن يأتيها ذلك الصوت في تلك الساعة.. على هاتف الفندق!
-كيف أنتِ؟
كادت لهول المفاجأة أن تختنق بما تأكل. فقدت صوتها للحظات، وجلست من الصدمة على حافة السرير، غير مصدّقة رنّة صوته العائد بعد شهر من الانقطاع.
159
-هل تقضي إقامة طيّبة من دوني؟
لم يحضرها أيّ جواب. ردّت بما بقي فيها من نزوع للتحّدي:
-حتماً..
-أتمنّى ذلك.
-أمّا أنا، فلا أصدّق أمنياتك. لقد سبق أن بعثت لي بهذه الأمنية ذاتها مع باقة توليب، يوم زيارتي الأولى لباريس قصد تعكير إقامتي.
ردّ بتهكّم:
-تعنين يوم أخلفت موعدك الأوّل معي.
-إن شئت.. لكن أخبرني أوّلاً كيف حصلت على هاتفي؟
-دوماً حصلت على ما أريد.
فعلاً.. لا ينقصك الغرور.
-بل يحدث أن أتواضع.
-تعني التواضع كأعلى درجات الغرور.
ضحك:
-أتكونين قاطعتني بسبب تواضعي؟
-ولأسباب أخرى أيضاً.
-أتمنّى أن أعرفها منك حين نلتقي.
-نلتقي؟ أنت تمزح حتماً.. نحن لا نبحث عن الشيء نفسه!
-ومن أدراك؟
-أنت رجل باذخ المهمّات، دائم الانشغال، لا وقت لك للحبّ.
تهاتفني في مساء الضجر، وتريدني أن أنتظرك ما بقي من عمر!
-هذه المرّة لن تنتظريني أكثر من يوم. سأحضر غداً إلى باريس وأصطحبك للعشاء في مطعم جميل.
160
أصابتها فكرة مجيئه بالذعر، فهي غير مهيّأة إطلاقاً لذلك، ما أحضرت معها ثياباً تليق بلقائه، ولا تريد أن يرى الفندق المتواضع الذي تُقيم فيه. ثم إن يوماً واحداً لا يكفيها للاستعداد لحدث كهذا. عليها أن تذهب عند الحلاّق، وتطلي أظفارها، وتخلع ((ثياب الممرّضة)) التي لبستها لمدّة اسبوع، وتذهب لشراء مايليق بلقائه.
قرّرت أن تخرج من الورطة بمواصلة المضيّ عكس قلبها:
-لا أرى قدومك مناسباً هذه الأيّام، وفي جميع الحالات لن أتمكّن من لقائك. أنا أنام باكراً في الليل لأنّ أمامي كلّ يوم نهاراً طويلاً.
ردّ ممازحاً:
-امرأة لا ليل لها.. كيف يكون لها من نهار؟!
-من قال لك إنّ لي نهاراً؟
-إذاً فليكن لك ليل.. أنت في باريس ياعزيزتي.
-أنا في السرير ولست في باريس. من تعبي لا رغبة لي إلّا في النوم.. كأنني جئت أغيّر الأسّرة لا المدن!
-لا تقولي إنّك ستنامين فوراً.. كم الساعة الآن عندك؟
-إنّها الثامنة والنصف.. نحن نسبق بيروت بساعة.
أخذ بعض الوقت كما لو كان يدقّق في ساعته ثم قال:
-في ساعتي أيضاً الثامنة والنصف.. غريب.
ردّت بتعجّب:
-أيكون التوقيت قد تغيّر؟ ما أدراني، مذ جئت فقدت علاقتي بالزمن كأنني هنا منذ قرن.
كانت تواصل الحديث إليه عندما دقّ باب غرفتها. ما كانت تريد أن يقطع عليها أحد سعادتها. خافت أن يُنهي المكالمة، ويضيع
161
منها كعادته لأسابيع أخرى. لم تجد بداً من الاعتذار منه لتستبقيه على الهاتف. قالت ممازحة:
-لم أطلب شيئاً من خدمة الغرف.. أتكون بعثت لي بورد مثلاً؟
ردّ ضاحكاً:
-لا.. ليس هذه المرّة!
-لا تقطع، أعطني دقيقة فقط لفتح الباب.
ردّ:
-لاتهتمّي.. أنتظر.
لم يقطع الخط، لكنّه قطع أنفاسها.. كاد يُغمى عليها وهي تراه أمامها. أغلق هاتفه الجوّال واعاده إلى جيبه. ثم ألقى نظرة إلى ساعته وقال وهو يُطلعها على الوقت:
-لم يحدث أن كنتِ أكثر دقّة.. إنّها الثامنة والدقيقة الواحدة والثلاثون!
لم تدقّق في ساعته. كلّ شيء فيها شهق.. وكلّ شيء فيه ابتسم!
نسيت أن تنظر إليه، أن تسلّم عليه بيدها أو بشفتيها.. أو بنظراتها. ما كان لها من عينين إلا لما يراه خلفها من تواضع غرفتها.
يا الله كيف فتحت له الباب في هذه الهيئة. ليتها وضعت شيئاً من الحمرة على شفتيها، شيئاً من الماسكارا على رموشها. لو أنّها مشّطت شعرها على الأقلّ.. لو كانت ترتدي ثوباً جميلاً للبيت. لكنها ما زالت بثياب ((الممرضة))، وليس لليلها من ثوب يليق باستقبال رجل.
رجل! تباً له من رجل.. ما الذي جاء به حتّى غرفتها؟
غرفتها! يا الله.. إنه الآن ينظر إلى كلّ شيء بائس وبشع خلفها، ويتأمّل فوضاها وبقايا العشاء المتواضع على طاولتها.
162
هل تدعوه ليدخل؟ هل تستبقيه عند الباب؟ هل تطرده؟ هي تسأله بأيّ حقّ؟ وبأيّ صوت تقول شيئاً من كلّ هذا، وقد ضاع صوتها منذ تسمّر أمامها.
أين هي تلك الكمّامات التي يقولون في الطائرات إنها تسقط تلقائياً عند انخفاض الأوكسجين؟ لماذا لا تسقط إحداها الآن وتدركها قبل أن تسقط هي منهارة عند عتبة الباب!
لكنه هو من أدركها وقال:
-أنتظرك في السيّارة.. غيّري ثيابك وانزلي.
من حيث هو، في نصف نظرة، ألقى نظرة شاملة على الغرفة. لمح السّماعة على السرير مفتوحة كما تركتها. قال مبتسماً وهو يطلب المصعد:
-لاتنسي أن تغلقي السمّاعة قبل أن تغادري!
أغلقت باب الغرفة خلف ابتسامته الماكرة، ووقعت للحظات مذهولة خجلةً كأنه رآها عارية ومضى.
هو ماجاء ليرى عُري إمكاناتها – لقد عرف من عنوان الفندق وعدد نجومه كلّ شيء – بل جاء ليريها ما بإمكانه أن يفعل ((من أجلها)). هل فعل هذا حقاً من أجلها؟
حتماً هو ينازلها في كلّ ما يقوم به. ولم تسأل نفسها هل فعل ذلك حباً بها أم تحدياً لها.
راقتها تلك المسافة التي يضعها دائماً بينه وبين خجلها، عن حياء أو عن كبرياء. كجلوسه في الصف الرابع لا الأوّل يوم كان يملك المقاعد كلّها. هو ما جاء ليدهمها، بل ليباغتها ويمضي. ما تخطَّى عتبة المفاجأة. أراد أن يحاصرها في ركن حقيقتها.. ليس أكثر.
163
هذا رجل يستحقّ براءة اختراع في كلّ مايفعله في امرأة!
من أين تبدأ؟ وفي أيّ اتّجاه تركض لتتهيّأ؟ لم يترك لها الخيار.. إنّه ينتظر.
أفرغت محتويات حقيبتها على السرير. لبست وخلعت في دقائق كلّ ما في حوزتها. أخرجت عدّة زينتها لتُعيد لوجهها ما فقد من نضارة في غيابه.
كانت على وشك المغادرة حين دقّ هاتف الفندق. توقّعته يستعجلها النزول.
كانت نجلاء على الخطّ.
-أحدهم هاتفك وطلب رقمك في فرنسا. قال إنّه صحافي من C B S نسيت أن أسأله عن اسمه.. سيتّصل بك لأمر مستعجل.
ما كان لها من وقت لتستمع إلى مزيد من التفاصيل. أمن الممكن أن يكون هو؟ راودتها الفكرة وهي في المصعد. إنّه حتماً هو.
رجل الإعصار العاطفيّ.. هل يعترض طريقه رقم هاتفي؟
كما في القصص السحريّة. عربة فارهة كانت تنتظر سندريلّا في الخارج. ما كانت تجرّها الخيول. بل يقودها الأمير العاشق نفسه.
إنها تعيش خرافة عصرّية. تجتاز فيها سندريلا بفرح حذر باريسها المتواضعة، إلى ((الضّفة الأخرى)) للأحلام.
ما كانت تدري أنّ للحبّ ضفّتين، حتّى اجتازت واقعها إلى ((الضفّة اليسرى)). لاحقاً ستعرف أنّ ((Ia rive gauche)) هي أيضاً اسم عطر لـ((إيف سان لوران)).
164
لم يسألها أين تريد أن تتعشّى في مدينة لا تعرف فيها عناوين تليق به. أثناء انتظارها في السيّارة، حجز لهما طاولة في مطعم اعتاد أن يرتاده في المناسبات الهامة أو الجميلة. يحبّ هذا الفندق المطلّ على حديقة ((التويلري))، بفخامة القرن التاسع عشر وأبّهته، بمراياه ورسوم سقفه ونقوشه الذهبيّة، بنادله الذي يشبه في بذلته السوداء ذات الذنَب، رئيساً ما للجمهوريّة الفرنسيّة.. أو قائد أوكسترا سمفونيّة.
تناول منها ((جيسكار ديستان)) معطفها. ورافقهما نادل آخر إلى الطاولة. سحبا الكرسييّن في الوقت نفسه، وأشعل أحدهما الشمعدان الفضّي.
سألها هل يعجبها المكان.
تفادت مكر السؤال.
كان لها من مباهج العشق في تلك السهرة ما يفيض على نساء العالم جميعهنّ. لكنّها، إنقاذاً لكرامتها العاطفيّة، قالت والنادل يمسك بمنديل أبيض زجاجة الماء المعدنيّ ويسكب منها في كأسيهما:
-الحبّ انسكاب في الآخر.. وأنا لا أعرف كيف أنسكب في كأس فاخرة إلى هذا الحدّ، لكنّ المكان فاتن حقاً. أحبّ رومانسيّتك!
ضحك ضحكته تلك وقال:
-تعتقدين أنني رومانسي؟
-وهل الرومانسيّة عيب؟
-في العالم الثالث الدي جئنا منه، الرومانسّية تعني العشق مع التخلّف.. أي الهروب من الحياة إلى الأوهام. أنا ياعزيزتي أحبّ الحياة، أمّا الرومانسيون، فيحبّون الأوهام.
165
استنتجت أنّها امرأة ساذجة، منخرطة في حزب المتخلّفين الحالمين، الأوفياء لأوهامهم، بنما يبدو هذا الرجل خائناً لكلّ شيء عدا الحياة. رغم توجُسها صدمة الجواب سألته:
-هل أنت وفيّ؟
فاجأه السؤال. ردّ ضاحكاً:
-أعرف.. النساء يعشقن القلوب الموصدة، المحكمة الإغلاق، لرجال أوفياء لغيرهنّ. الرجل الوفيّ، رجل متنازع عليه، غالباً من أجل إطاحة المرأة التي أعلن إخلاصه لها، وترى فيها النساء إهانة لأنوثتهن، أول ما يستسلم يفقد سطوته. سأسعدك وأعلن أنّني وفيّ!
سألته بسعادة:
-حقاً؟
-إنّي سيّد من سادة الوفاء.. أخلص لما أُحبّ.
-أتعني لما، أم لمن؟
جاءها الجواب:
-لن تعرفي هذا إلّا من حدسك الأنثويّ!
إيّ تمرين هذا؟ أرادت حشره.
قالت:
-حدسي يقول إنك خائن.
ردّ ضاحكاً:
-أخطأ حدسك مرّة أخرى. الخيانة أن تُقبل على امرأة دون شهوة أي أن تخون جسدك. لا أذكر أني فعلت ذلك.
إنّه كلام أكبر من فهمها. كل ما أرادت أن تعرف هل يحبّها. ولا وسيلة لطرح سؤال يبدو بسيطاً على رجلٍ يتكلّم غير لغة.
سألها:
-إلى متى ستبقين في باريس؟
-تأشيرتي تنتهي بعد ثلاثة أيّام. من حسن حظّي أنّ خالتي تعافت.
ثم، لتبرّر مارآها عليه، أضافت:
-إنّي أُقيم في ذلك الفندق حتّى أكون قريبة من المستشفى الذي أجرت فيه العمليّة.
قال:
-للمناسبة، لقد حجزت لك غرفة في هذا الفندق ابتداءً من الليلة، لثلاثة أيّام قابلة للتمديد.. توقّعتك ستبقين أكثر.
انتفضت مدافعة عن كرامتها:
-من قال لك إنّني سأقبل ذلك؟
-إقامتك هنا ستكون أجمل. اخترت ما يليق بمقامك.
فكّرَت أنّه اختار عنواناً يليق بمقامه، الذي لا يسمح له بحبّ فتاة تقيم في ذلك العنوان.
قالت وقد استعادت شراستها:
-لكنّني ما طلبت منك شيئاً.
-الحبّ يعطي قبل أن يُطلب منه.
كانت الأنفة تزيد من اشتهائه لها، فهو يحبّ تلك اللبؤة النائمة فيها. أمّا هي فكانت ترى في إغداقه غير المبّرر إهانة لقيم الرجولة التي تربّت عليها. حين يذّكرها بأنّها عزلاء أمام سطوة ماله، لا يجرّدها من أنوثتها بل من رجولتها.
167
قالت بعناد:
-لن أقيم في غير فندقي.. إنّه أقرب إلى المستشفى.
أجاب بما يعرف أنّه سيهزمها:
-لكنّك هنا أقرب إليّ.
وضع في جملته ما يكفي من البوح الموارب لإطاحة صمودها.
واصل:
-بإمكانك أن تأخذي تاكسي أو الميترو لتزوري خالتك.
بدأ منطقه يجرّدها من شراستها. هل تعاتبه لأنه يريدها قريبة منه؟
برغم ذلك رفضت الاستسلام له بسهولة. قالت:
-لا رغبة لي في جمع أشيائي وتوضيب حقيبتي أكثر من مرّة. كلّها ثلاثة أيّام!
-اللهفة لا تقاس بالأيام.. توّقعتك تعدّين الدقائق. على كلّ حال، لقد حجزت لك الفندق.. قررّي ما شئت!
أفحمها.. أربكها. بدا لها أكثر لهفة منها.
سألته:
-متى فعلت هذا؟
-عندما انسحبتُ قبل قليل. كنت أريد التأكّد من وجود غرفة شاغرة هذا المساء. تدرين، هذا الفندق هو أحد أعرق فنادق باريس، لجماله. طلب أحد النبلاء في القرن التاسع عشر أن يقضي فيه ليلته الأخيرة، قبل أن يمضي فجراً لمنازلة غريمه في غابة بولونيا، فربّما كانت آخر ليلة في حياته.
-وهل حجزت لي فيه لأنك تنوي منازلتي؟
168
ضحك..
-لا أحتاج إلى إشهار سيف لأهزمك. ليس في حوزتي إلّا الدروع..
كان يدري أنّها، منذ اللحظة التي تقبل فيها عرضه، يكون قد هزمها. وكانت تجهل أنّ حبّه لا يحيا إلّا في سطوة إغداقه. في الواقع ما كان يشعر بالأمان مع امرأة ترفض سطوته. أما هي، فكانت ترى أن الحب هو الذي يمنح الفنادق نجومها، كان يكفي دخوله إلى فندقها البائس ذاك بحثاً عنها، ليرفعه الحب إلى صف فنادق الخمس نجوم.
انتهى بها الأمر إلى الاستسلام لعرضه، إنها تعيش لأشهرٍ بعيدة عنه، مقابل ((دقائق)) تعيشها بمحاذاته، ومن الجريمة أن تفرّط في دقائق هي كلّ ما تجود به الحياة عليها.
في خضم أفكارها نسيت ((جريمة)) الورقة النقديةّ، التي تركها فوق الحساب المدفوع ببطاقة مصرفيّة. ورقة تعادل تماماً نصف دخلها الشهري كمدّرسة. كي لا تُجنّ أو تموت قهراً، قرّرت أن تكفّ عن اعتبار دخلها مقياساً لنفقاته.
قال:
-سأرافقك إلى فندقك لتجمعي حاجاتك. ثم اطلبي سيّارة أجرة للعودة إلى هنا.
اطمأنّت إلى نواياه وعجبت لها.
-وأين تُقيم أنت؟
-لي بيت في باريس.
قالت ممازحة:
-نسيت انّك تعمل صحافي هنا في قناة C B S.
169
ضحك. أدرك أنّها اكتشفت حيلته.
أضافت:
- للمناسبة ماذا كنت ستسألني في مقابلتك تلك؟
أجاب وهو يمشي بجوارها نحو السيّارة:
-أوّلاً هل أنت وفيّة؟
-ثم؟
-لكنّك لم تجيبي عن السؤال الأوّل.
-أفضّل الاطّلاع على كلّ الأسئلة قبل الإجابة. هكذا علّموني!
-فليكن.. ثانياً، أستكونين لي؟
-ثم؟
كانا قد وصلا إلى السيّارة. قال:
-أكتفي بهذين السؤالين، البقيّة سأطرحها عليك في وقت لا تتوقّعينه!
قالت ممازحة:
-من حقّي إذاً أن أجيبك في الوقت الذي لن تتوقّعه على الإطلاق!
طوّق خصرها بذراعه التي كانت ممدودة لتفتح لها الباب.
حشرها بين السيارة وصدره، وقال:
-للمناسبة، يجوز الرد على بعض الأسئلة بالقُبل.
وقبل أن تستوعب الموقف، كان قد سحبها نحوه وراح يقبّلها.
لاتدري كم من ((نعم)) قالت له في قبلة واحدة، كن من ((بلى)) وكم من ((أجل)).
170
استسلمت لذراعيه ولخدر النشوة. شعرت أنّها ثملة بالقُبل، بكّل الوعود التي منحتها شفتاه، لثماً وتقبيلاً. معه، لا شيء كان يبدو فضيحة، على مرأى من السماء، من نهر السين، ومن برج إيفل، أصبحت امرأة بقبلة عمرها سبع وعشرون سنة من الانتظار.
كانت باريس ليلتها سخيّة. تتلألأ بأضواء نهاية السنة، ورذاذ مطر يحمي عاشقين من محضر ضبط عاطفي. غادرته بأحاسيس ملتبسة كما لو أنّها فقدت بتلك القبلة عذريّتها.
***
ما أتعس من لم يفُز بشفتيها!
كان يودّ وهو يرافقها بعد العشاء إلى فندقها ذاك، لو باح لها بأنّه يرثي لرجال جاؤوا العالم وسيغادرونه، من دون أن يكونوا قد خبروا قبلة كتلك. لكنّه ما اعتاد أن يفضح أحاسيسه لأحد، أو يبوح بضعفه لامرأة. هو دائم الاحتراز من الحبّ، لعلمه أنّ الذي يحبّ الأقلّ هو الأقوى. لا يذكر أنّه قال ((أحبّك)) سوى لزوجته قبل خمس وعشرين سنة، لكنّ النساء تعلّقن به برغم ذلك، لأنّه يقول تلك الكلمة في كلّ ما يفعله، بينما لا يفعل الآخرون غير قولها.
هل يحبّها حقاً؟
هو نفسه لا يدري. هي شجرة يستظلّ بها، ولا يريد أن يُنبهّها إلى ثمارها فيقطفها سواه.
يريد له وحده مرحها وصباها، ذكاء أنوثتها، براءتها، اندهاشها البكر بكلّ ماتراه معه لأوّل مرّة.
171
يحبّ جرأتها في الدفاع عن قناعاتها، وهزيمتها حين يجرّدها من قراراتها. يحبّ نقاءها، ويشتهي منذا الآن إفسادها. هو فقط يؤجّل أوان امتلاكها. في مايخصّ النساء ما كان يوماً على عجل. هو ليس من حديثي النعمة، مائدته عمرت دائماً بما اشتهى. لذا لم يكن يفترس الحياة، كان يتذوّقها ويترك منها شيئاً على طاولة الموعد التالي.
في الصباح، هاتفها إلى فندقها الجديد، كانت قد غادرت الغرفة. لم يترك لها رسالة صوتية على جهاز التسجيل. حتماً ما كان ليفعل. كان يعنيه فقط أن يتأكد أنها نقلت إقامتها إلى الفندق.
حين طلبته ظهراً من مقصورة هاتفية، وعدها أن يمرّ بها مساءً ليصطحبها إلى العشاء.
-هل أعجبتك الغرفة؟
ردّت مازحة:
-تعني الجناح.. وماذا أفعل بجناح واحد؟
ضحك لدعوتها المواربة لرؤيته.
قال:
-إذاً أنا من يطير إليك. كوني جاهزة عند الساعة الثامنة في البهو سأمر لاصطحابك إلى العشاء.
وقبل أن يضيف شيئاً، دق هاتف آخر في مكتبه فودعها على عجل.
-أراك مساءً.
كلمتان كانتا كافيتين لإحداث تلك الارتجاجات بجدران قلبها. معه هي دائماً وسط حزام الزلازل.
172
اعتذرت لخالتها بذريعة انشغالها بالتسوّق قبل عودتها. النصف الآخر للحقيقة، كان أنّها تحتاج إلى أن تتسوّق لموعدها معه هذا المساء. لها رغبة في إبهاره.
قررّت أن تكون سخيّة مع نفسها، أي ضنينة مع الآخرين. ما ستنفقه على كماليّاتها هو ما ستنقصه من المبلغ الذي كانت ستشتري به هدايا للأهل في سوريا. وهذا يؤلمها. لكن لا مفرّ، لا بّد أن تذهب إلى الحلاّق، وتشتري ثوباً جديداً، وخاصّةً معطفاً أنيقاً.
كم شعرت بالخجل البارحة، وذلك النادل الشبيه بجيسكار ديستان يأخذ منها معطفها قبل الجلوس، ويضعه بجوار المعاطف الفاخرة المعلّقة. كانت تفضّل لو احتفظت به على الكرسي المجاور. ولكن كان في الأمر فضيحة أكبر.. فضيحة الجهل بالإتيكيت!
مايعنيها حقاً هو أن تُنسيه الحالة التي رآها عليها البارحة.
***
قبل الثامنة بدقائق، نزلت إلى بهو الفندق. لم تكن الساعة في معصمها بل في قلبها. مذ هاتفها والدقائق تركض بها. تفقّدت زينتها أكثر من مرّة. صفّفت شعرها ثم غيّرت تسريحتها مراراً. في آخر لحظة، قرّرت أن تجمعه وتسدله على جانب واحد.
كانت تبدو جميلة، كما يليق بسندريلا أن تكون. هكذا قالت عينا الرجل الذي أخذ معها المصعد، وعيون من صادفت في بهو الفندق. جلست تنتظر قدومه، في ذلك الصالون الأرستقراطي السقف والثريات، حيث لا أحد يعرفها، ولا تتعرف هي نفسها إلى نفسها!
173
تأمّلت السيّدات وهنّ يعبرن في كامل أناقتهنّ، والرجال الوحيدين، والآخرين المصحوبين بنساء. شغلت نفسها بالاستماع للموسيقى التي كانت تعزفها فتاة على البيانو. قصدت الحمّام، هرباً من نظرات رجاليّة، بدأت تُطيل النظر إليها. صعدت إلى الغرفة قليلاً عساه يطلبها هناك، ثم عادت ونزلت عساه يكون جاء.
انقضت نصف ساعة على وجودها في مهبّ الأنظار والانتظار حين مرّ أحد الموظّفين بلوحة مكتوب عليها اسمها. كانت مطلوبة على الهاتف.
على الطرف الآخر، قال صوته بنبرة أخفض من العادة:
-عذراً.. نسيت أننا نستقبل ضيوفاً على العشاء في البيت. تعشي حيث تعشينا البارحة.. أو اطلبي عشاءً في الغرفة. سأتصل بك غداً. تصبحين على خير.
كان واضحاً أنها مكالمة مسروقة. ما ترك لها حتّى ومضة، لوضع سؤال أو علامة تعجّب.
كلمات وانطفأت الفرحة في عينيها وذبل توهّجها.
عادت سندريلا إلى الغرفة تخلع بهجتها، وتغسل مساحيق أوهامها.
دوماً يعاكس الحبّ توقّعات العشاق، هو يحبّ مباغتتهم، مفاجأتهم حيناً، وحيناً مفاجعتهم. لا شيء يحلو له كالعبث بمفكّراتهم، ولخبطة كلّ مايخطّونه عليها من مواعيد. ما الجدوى من حمل مفكّرة إذاً.. إن كان هو من يملك الممحاة.. والقلم.
174
البارحة كما اليوم، ضحك عليها الحبّ. أمس جاءها حينما كانت في هيئة لا تليق باستقباله، فأربكها، واليوم جاء بها وتخلّى عنها وهي بكامل زينتها، بعدها قضت يوماً كاملاً في الاستعداد له.
الحبّ؟ لا، هي تعني ذلك الرجل. أمّا الحبّ فهو يحاول الآن أن يعتذر لاستعماله الممحاة، بأن يدلّلها كي ينسيها أذى الحبيب، الذي يتحدث لأول مرة بصيغة الجمع. بمنطق الزوج الذي له حياة أخرى، وبيت آخر، يستقبل فيه مع امرأة أخرى ضيوفاً آخرين.
أمّا هي، فهي ليست ضيفة الحبيب هذا المساء، بل عاشقة مهجورة في ضيافة الحبّ، الذي يقدمّ لها العشاء في صحون البورسلين المغطّاة بأغطية فضّيّة فاخرة، كما ليخفي عنها وجبة الحزن.
الحبّ يسقيها الصبر في كؤوس الكريستال، يواسيها بوضع وردة على مائدة الغياب، وينسى المناديل الورقيّة للبكاء.
إنه حبّ باذخ، لا يضع البكاء في حسبانه. كل مناديله من القماش الفاخر.
الحبّ يضع كلّ تلك الرغوة المعطّرة في مغطس حمامّها، يُغيّر شراشف نومها، يضع قطعة شوكولا على وسادتها، مصحوبة بأمنيات الفندق بليلة جميلة.
يسألها وهي جالسة على أريكة الأسى:
-ماذا أستطيع من أجلك يا سيّدتي؟
-لا شيء، طاب مساؤك أيّها الحبّ!
تطفئ الأضواء.. لكنهّا لا تنام. تخلد إلى اللّوم طويلاً. لا تغفر لنفسها أن تكون منحته فرصة الاستخفاف بها. كيف استدرجها ذلك الرجل إلى هذه الإهانة الباذخة!؟
175
صباحاً استيقظت على صوته. قال إنه في طريقة إلى المكتب، وإنه أحب أن يبدأ نهاره بسماعها.
سألته هل له مكتب في كل بلد. وعندما ردّ بضحكة، سألته هل له في كلّ مرفأ امرأة تنتظر دعوته إلى العشاء. قال إنّه لا يشترك مع البّحارة سوى في حب البحر، وإنه لا يتقن السباحة، قالت:
-أمّا أنا فلا أتقن الانتظار، ولا أنوي الارتباط ببحّار.. لذا سأغادر الفندق هذا الصباح!
ردّ مازحاً:
-لا تكوني جزائريّة.. أكلكُم عصبيّون هكذا؟
أجابت:
-ستعثر على نساء جاهزات لانتظارك في بهو فندق. أنا ما انتظرت قبلك إلا القتلة. في محطة الحافلة، وفي بهو المدرسة، وفي مدخل البيت، وحتى وأنا في الصف. كنت أنتظر الموت لكن بكبرياء. البارحة فقدت تلك الأنفة وأنا أنتظرك ساعة كاملة أمام أناس فائقي الترف، لا يدرون أي طريق قطعت، للوصول إلى هذا المكان. كنت في انتظارك مجرّد أنثى.. وقد كنت في انتظار الموت رجلاً.
ظلّ صامتاً. ما اعتاد نبرة كهذه ولا توقّع كلاماً كهذا. كان مأخوذاً بغضبها، بهذه الأنثى التي نامت قطّة واستيقظت لبؤة. إنّها فصيلة من النساء لم يعهدها.
أجابها بأوّل ما خطر في ذهنه. لأوّل مرّة تكلّم دون اختيار كلماته. لأوّل مرّة ناداها باسمها:
-هالة.. ما أجملك غاضبة! أحب كبرياءك، ولأنك كبيرة ستغفرين لي. لا تغادري الفندق رجاءً، سأحضر باكراً اليوم، وأصطحبك
176
في فسحة جميلة في غابة بولونيا. أنا أمارس رياضة المشي هناك. ارتدي ثياباً مريحة وحذاءً رياضياً سنمشي كثيراً، وسأجعل كلّ الأشجار تعتذر لك. هل تقبلين اعتذار الأشجار؟
نجح في تهدئتها. قالت:
-مادامت الأشجار أنثى.. لكنّني لا أغفر أن يخطئ رجل في حقّي!
أغلق الهاتف وتركها أمام مشروع جديد ومصاريف جديدة. عليها الآن أن تخرج للبحث عن ثياب رياضيّة وحذاء للمشي من ماركة كبيرة طبعاً!
يا الله.. كم هو مكلف أن تكوني عاشقة!
على الساعة السادسة بالضبط حضر سيّد الحضور العاصف، وانطلقت بهما السّيارة نحو غابة بولونيا.
برغم البرد، كان كلّ شيء يبدو جميلاً، كقصيدة شتويّة. كما لو كانت كلّ الكائنات تتودّد للعشّاق، أو تتودّد له هو بالذات. أيكون اشترى ودّها؟ الأشجار التي يعرف أسماءها ونسبها، ومواسم اخضرارها، ومن أي من بلاد الله الواسعة جيء بها.
هو الذي ما كان يجود عليها سوى بدقائق على الهاتف، يبدو أنّه منح الأشجار متّسعاً من الوقت، كي تتسنّى له قراءة كلّ لوحة (حديديّة) سُمّرت على شجرة.
كان، وهو يمشي معها على ضفاف البحيرة التي تتزلج عليها بعض البطّات، يُسمّي لها الأشجار واحدة واحدة، كما لو كان يُعرّفها إلى إناث سبقنها إلى قلبه.
177
قالت ممازحة:
-لن تكون المنافسة صعبة إن كانت هذه الأشجار نساءك!
ردّ بالدعابة ذاتها:
-برغم ذلك لا تطمئنّي تماماً لرجل يهرب من البشر إلى الشجر!
-كنت أعني أنّ الرجال يستعرضون عادة على امرأة تدخل حياتهم، أسماء النساء اللائي سبقنها إلى أسرتهم، وأجد طريفاً أن يكون في ماضيك حريمٌ من الأشجار.
-ليس من الرجولة الخوض في حضرة امرأة في موضوعين: المال و ((الفتوحات الرجاليّة)). وحدهم الأثرياء الجدد يتبجحون بثرائهم.. والمحرومون من صحبة النساء يباهون بعلاقاتهم.
-لعّلك إذاً شبعت نساءً؟
ردّ ضاحكاً:
-وربّما شبعت أشجاراً!
-حقاً؟
-طبعاً.. على الأقلّ بحكم عملي في صناعة الورق.
-وما الذي أوصلك إلى هذه التجارة؟
-يكفي أني أقمت في البرازيل حيث رئتا العالم. أشسع الغابات توجد هناك، وأيضاً مصانع الخشب والورق.
-أي إنّك تدلّل الأشجار هنا، وتغتالها في مكان آخر!
-لست من يغتالها. أنا أقدّم الورق لكي يقرأ الناس الأوديسة، وملحمة جلجامش، وفولتير، والمتنبّي، وجبران. المجرمون هم الذين يحتاجون إلى مسح غابة عن وجه الأرض لنشر كتب لن يقرأها أحد..
ولطبع جرائد بأوراق فاخرة نصفها محجوز للتهاني والتعازي ولبزنس
178
الأفراح والموت.. ومجلاّت فخمة لا يمكنك حملها، مختصّة بنشر أخبار ((أمراء الصور)).. الذين يدّعون، برغم ذلك، دفاعهم عن البيئة.
قالت مازحة:
-أنت تأتي هنا إذاً لتعتذر للغابات.
جاء جوابه قاطعاً:
-لم يحدث أن اعتذرت!
كانت نبرته جازمة. لولا وقْعها الجاد لخالته يمزح.
لاحقاً فقط، ستختبر كم كان صادقاً في قوله هذا. الآن هي لا تتعمق كثيراً في ما يقوله. سعادتها به تشلّ تفكيرها. لم يحدث أن كان أكثر تلقائيّة وصدقاً ممّا هو اليوم، ولا كانت أقرب إليه ممّا هي هنا.
لكأنّ الطبيعة ساوت بينهما، خارج الفنادق والمطاعم الفاخرة. هو الآن مثلها في ثيابه الرياضيّة، يتقاسم معها بالتساوي الهواء النقي، في غابة ساحرة، هي حسب القانون الفرنسي ملك كلّ من يتنزّه فيها.
قالت متحسّرة:
-تدري.. مذ اختار الإرهابيّون في الجزائر الغابات مخبأً لهم، غدت كلمة غابة بالنسبة لي مرادفة للرعب. لو لم أكن سأسافر لترددت إلى هذه الغابة كلّ يوم. يا لجمالها الأخّاذ! هذه أوّل مرة منذ عدّة سنوات، أمشي بين الأشجار بطمأنينة وسعادة. كم كنت أحتاج إلى هذا!
ردّ:
-إنّي في مفاوضات لشراء شقّة غير بعيدة من هنا. بإمكانك في المستقبل إن شئت، الإقامة فيها عندما تزورين باريس.
ردّت بسعادة:
179
-إنّه حيّ جميل حقاً.. فكرة جيّدة أن تنتقل للإقامة فيه.
-الحيّ الذي أسكنه جميل كذلك. هذه ستكون شقّة لضيوف الشركة حين يزورون باريس.
-أتوقع أن يكون بيتك فائق الجمال، ما دُمت تفضّله على بيت في هذه المنطقة.
أجاب وقد التقط نبرة حزنها:
-البيت يصنع جماله من يقاسموننا الإقامة فيه.
استنتجت أنّه غير سعيد مع المرأة التي تقاسمه إيّاه، وراحت تصنع من تعاسته المفترضة خبث سعادتها. قالت:
-كم أتمنّى التردّد إلى باريس.. لولا المشاغل التي تنتظرني في الشام.
-مثل ماذا؟
-لي حفلان في الشهر المقبل، يجب أن أستعدّ لهما حال عودتي. بعض الأغاني جديدة وتستدعي عدّة بروفات، خاصّة أنّني سأغنّي لأوّل مرّة في الخليج..
-وهل زرت فيينا؟
-فيينا؟ لا.
-سأصطحبك إليها ذات مرّة. خذي الموسيقى من منبعها، لا من هذا الزعيق الذي يسمّونه اليوم غناءً. كيف لأناس لا يعرفون سولفاج الكون أن يغنّوا! وكيف لمن لم يتدرّب على الصمت أن يصدح!
-أتغنّي؟
-لا. أنا أصغي. لذا أعتبر نفسي أفضل من كثير من المطربين. إنّ مستمعاً جيداً أفضل من مطرب سيّئ!
180
-صدقت.
-تعلّمي الغناء من الإصغاء إلى حفيف الكائنات، كما الآن.. أصغي إلى صمتك وأنت تمشين في هذه الغابة.. بالصمت نعرف متى يكون الوقت صحيحاً أو خاطئاً في الموسيقى.. كما في الحياة.
-كيف تعرف هذا؟
ضحك.
-أعرف ماذا؟ متى يكون الوقت صحيحاً؟
-أعني كيف تعلّمت هذا؟
-بعضه من الكتب، وبعضه من التأمّل، لا يمكن أن تمضي بعيداً في الحياة، إن لم تضبطي إيقاعك. الإيقاع يمنعك من أن تنّشزي أو تلهثي، أو تمضي في كلّ صوب. الناس الذين ترينهم تائهين في الحياة، لم يأخذوا الوقت الكافي لضبط إيقاعهم قبل أن ينطلقوا. أي إنّهم لم يخلدوا قليلاً إلى صمتهم العميق، ليُدوزنوا خطاهم قبل الانطلاق الكبير.
-أقرأت هذا؟
-بل خبرته.. ما قرأته هو أنّهم كانوا يعتقدون أنّ الموسيقى هي الصوت. حتى جاء بيتهوفن واستلهم موسيقى الصمت. تدرين أنّ الموسيقى الغربّية لا وجود للصمت فيها.
قالت كمن عثر على اكتشاف:
-ربّما يكون لترتيل القرآن الفضل في تعليم العرب ضرورة الصمت في الإنشاد. إنّ وقع الصمت بين الآيات له على النفس وقع الآية نفسها. وهو يطول ويقصر حسب ما يريد أن يحمّله المقرئ من معانٍ. لذا لا يمكن اعتباره صمتاً بل ترتيل أيضاً.
181
واصلت:
-لا أدري، أنا أقول هذا اجتهاداً، أفكر في ذلك الصمت الطويل الذي تتركه أمّ كلثوم مثلاً بين جملة غنائيّة وأخرى. إنّ مطربي جيلها مثل مطربي جيل أبي، كانوا منشدين ومقرئين أيضاً، لذا جعلوا من الصمت بين وصلتين أعلى درجات التجلّي الروحي.
توقّف فجأة عن المشي وقال:
-لم يحدث أن استمتعت بحديث كما معك الآن، تدرين.. أحتاج إلى ذكائك لأشتهيك.
لاحظت أنّه لم يقل لأحبّك.
ردّت بخجل:
-لا أظنّني ذكيّة إلى درجة الاشتهاء، أنا أجاريك في التفكير ليس أكثر. قلما وجدتُ أحداً أتحدث معه بعمق. الذكاء في النهاية تمرين، وأنا قضيت عمري في التمرّن على قمع ذكائي، حتّى لا يزيدني شقاءً!
توقّف عن المشي وقال وهو يمرّر يده على شعرها:
-لن تشقي بعد اليوم.. سنلتقي كلّما استطعت، أنا أيضاً أحتاج إلى أن أتحدّث إليك.
تمنّت لو قال ((أحتاج إليك)). حاولت استدراجه إلى تلك الكلمة.
قالت:
-أحب أن تحتاج إلىّ.. الحبّ احتياج.
صحّحها وهو يضمّها إليه:
-بل الحبّ اجتياح!
راحت شفتاه تجتاحانها على مرأى قبيلة من الأشجار، كأنما قُبلته درس تطبيقيّ لما قاله.
182
بدا لها أن قُبلته طالت حدّ احمرار أوراق الشجر استحياءً.. وغيرة، وأنّه حين توقّف عن تقبيلها، كانت الفصول الأربعة بربيعها وأعاصيرها قد عبرتها في بضع دقائق.
لم تقل شيئاً. شفتاه تسرقان دائماً صوتها.
ولا هو كسر بينهما نشوة لا نبلغها إلّا حين توغُلنا في الآخر صمتاً. أوصلها إلى الفندق وإحساس واحد يسكنه. كم كان يلزمه من شفاه، ليلثم في امرأة واحدة كلّ أنوثة الكون!
***
أجمل لحظة في الحبّ هي ماقبل الاعتراف به. كيف تجعل ذلك الارتباك الأوّل يطول. تلك الحالة من الدوران التي يتغير فيها نبضك وعمرك أكثر من مرة في لحظة واحدة.. وأنت على مشارف كلمة واحدة.
مرات كثيرة كادت تلفظها، لكنها مثله لم تقلها. هو قال ((بالصمت نعرف متى يكون الوقت خطأ أو صحيحاً في الموسيقى)) وخارج الموسيقى كيف نستدل على الوقت المناسب تماماً، لقول كلمة واحدة، لا تعود بعدها الكلمات ما كانته من قبل. يقول فيكتور هيغو ((بعد الاعتراف الأول، لا تعود كلمة أحبّك تعني شيئاً)). لذا دافع كبار العشاق، عن شرف الكلمات ((البكر)) التي خُلقت لتلفظ مرة واحدة. فبالنسبة لهؤلاء كلمة ((أحبك)) حدث لغوي جلل.
يا للمسؤوليّة! لهولها سعدت أنّها لم تقلها له، ولا هو قالها. لكنّ قبلها سمع ما سكت عنه. كتذمّره المستتر من الحياة الزوجيّة.
183
دهمها شعور بالإثم، لا تريد أن تأخذ رجلاً من امرأة أخرى، ولا أن تتقاسمه معها. لا تدري في هذا الحبّ في أيّ درجة من سلّم القيم تقف. تؤرّقها الأسئلة، وتفسد عليها نومها. على سعادتها، هي ليست راضية عن تصرّفاتها، تشعر بأن شيئاً فيها بدأ يتشوّه.
برغم ذلك، حين عادت إلى الشام صاحت نجلاء مبتهجة وهي تراها مجدداً:
-ماذا فعلت لتشعّي بهاءً هكذا؟
تضحك.. تقسم.. تؤكّد.
-والله لا شيء.
-عدا عملك ممّرضة ماذا فعلت خلال عشرة أيّام؟
-تعنين خلال ثلاثة أيّام.. الحبّ يأتي متأخّراً دائماً!
إنّها بحاجة إلى أن تروي لأحد ما حلّ بها.
لكنّنا لا نعرف كيف نروي الحلم عندما نستيقظ منه. لا شيء فيه يشبه مانعيشه عادة. مذ عادت من باريس، وهي تعيش في منطقة حدودية متحركة ذهاباً وإياباً، بين الأحلام والواقع. بين ما عاشته معه وماتعيشه بعده. تكاد تشكّ أن ذلك حدث. لولا أنّها أحضرت معها من ذلك الفندق الفاخر، تلك التفاصيل الصغيرة التي توضع في حمّامات الفنادق، من صابون معطّر لماركات كبيرة ولوازم الاستحمام وخفّ أبيض أنيق. ليست قيمتها المادّيّة التي تعنيها، بل القبض على الحلم. كما في قصّة سندريلا بقي لها من الفندق ذلك الخفّ لا تريد أن تنتعله: تخاف عليه أن يهترئ. ما دام في كيسه الورقيّ اللامع بإمكانها انتعاله في أحلامها متى شاءت.
184
كانت تتوّرط في هواية موجعة. هي لا تدري بعدُ كم ستجمع بعد ذلك من خفاف لفنادق فاخرة ستزورها معه، وأنّها ذات يوم ستغادر أحلامها بـ((خُفي حُنين))!
صاحت نجلاء:
-لا! كان هو إذاً ذلك الرجل الذي هاتفني؟ كم جميل أن ينتحل عاشق صفة ليفاجئ حبيبته!
-لم تكن مفاجأة بل ((مفاجعة))! غُشي عليّ وأنا أراه عند باب غرفتي، في ذلك الفندق البائس، ليتك أخبرتني بهاتفه.
-وما أدراني به.. ثم هو يعلم أنّك لست ثريّة.
-وأصبح يدري الآن كم هو قويّ، إنّها سطوة المال. عندما يُخرجك أحدهم من فندق بنجمتين ويسكنك غصباً عنك فندقاً فوق النجوم.
-أهذا مأخذك عليه؟ أتريدين عاشقاً بائساً كأولئك الذين تركتهم في الجزائر. بؤسهم كان ينعكس على ملامح وجهك.. انظري الآن كم أنت جميلة. ليس السخاء المادّي بل السخاء العاطفي، حبّ هذا الرجل يجمّلك!
-لم ألتقه في باريس سوى ثلاث مرّات، كيف له أن يجمّلني!
-طبعاً.. هناك حبّ يجعلنا أجمل وآخر يجعلنا نذبل. ثمّة رجال يبثّون ذبذبات سلبيّة غصباً عنهم، يأتونك بكآبتهم وهمومهم وعقدهم وعليك أن تنتشليهم بالحبّ من وحل أنفسهم. وهؤلاء لا أمل منهم، تمدّين لهم يد النجدة على أمل أن تكسبي رجلاً، فإذا بالرجل يتشبّث بتلابيبك حدّ إغراقك معه في بركة مياهه الآسنة.
185
لكأنّ نجلاء تعرف عن هذا الرجل، الذي لم تحدّثه سوى جملتين على الهاتف، أكثر ممّا تعرف هي. إنّه لا يشبه أحداً ممّن التقيتهم من الرجال. هذا الرجل شلّال حياة، نهر يجرفك، يدفعك إلى مجاراته في مسابقة نفسك لبلوغ ما لم تتوقّعي بلوغه. أنت معه في تحدٍّ دائم لتلحقي به.. أو لتطاليه.
قالت وهي تتأمّل نجلاء:
-ربّما كنت على حق.
-أنا حتماً على حقّ. الفشل مُعد تماماً كالنجاح، والسعادة مُعدية تماماً كالكآبة، وحتى الجمال مُعد. إنّ رجلاً جميلاً وأنيقاً ينقل لك عدواه ويُجبرك على أن تضاهيه أناقة حتى لا تخسريه، وألّا تهملي مظهرك حتّى لا تبدي غير أهل له. لذا عليك قبل أن تُقبلي على حبّ رجل، أن تدركي العيوب التي ستنتقل إليك بعد الآن بحكم العدوى.
صاحت:
-يا الله.. لا تذكّريني بالأناقة. أيّ فضيحة كانت عندما دعاني إلى العشاء وما كان في حوزتي ما يليق بالمناسبة.
-كيف تسافرين من دون أن تحسبي حساباً لمناسبة كهذه؟
-تدرين في أي ظروف سافرت. ما أدراني أنّه سيأتي.. كأنّني بخّرت له، لا أدري من أين يطلع لي هذا الرجل كالجنّ أينما كنت.
-عليك إذاً أن تكوني في قمّة أناقتك بعد الآن وكأنّك ستلتقينه أينما حللت، وأن تكون لك ثياب تليق بمرافقة رجل من مقامه.
-تدرين.. قرأت يوماً قولاً جعلني أحسم أمري في ما يخصّ موضوع الثياب.
-ها.. هاتي لنسمع!
186
-((لا تحاول أن تجعل ملابسك أغلى شيء فيك حتّى لا تجد نفسك يوماً أرخص ممّا ترتديه)).
-جميل.. حتماً قرأته يوم كنت مدرّسة. لكنك الآن ياعزيزتي نجمة، وإن لم تتبرّجي وتنفقي كما تنفق النجمات على أزيائهنّ، فستجدين نفسك، على غلاك، أرخص منهنّ، وأرخص من صوتك. هكذا يقول منطق السوق، ثم بربّك، أما آن لك أن تخلعي الأسود؟
-أتدرين كم من المشاهير ارتدوا الأسود طوال حياتهم وما زادهم إلا تميزاً؟ باكو رابان، إديث بياف، جولييت غريكو..
قاطعتها:
-ولكنك لست هؤلاء، ولا أنت في فرنسا.. أنت في الزمان والمكان الخطأ. العصر الآن للبهجة.
قالت كما لتنهي الحوار:
-لا تحاولي معي عزيزتي فأنا لن أخلعه.
حتماً لا تنوي خلعه. هو نفسه حين رآها في زيّ رياضي سماويّ اللون اشترته لتلك النزهة في الغابة قال لها كما ليُبدي عدم إعجابه بلونها الجديد:
-كلّما اشتقت إليّ ارتدي الأسود.
ردّت كمن يعتذر لرجل يعشق الأشجار:
-أنا شجرة توت لا رداء لي أصلاً إلاّ السواد.
منذ ذلك الحين، وفي انتظار أن تراه مجدّداً، ما عادت شجرة واحدة، بل غابة من النساء. هي شجرة الكرز المزهرة، هي شجرة الصّبار والصفصاف الباكي، وشجرة اللوز، وشجرة الأرز، والسنونو والصنوبرة.
بعده لم تعد تصادق إلّا الغابات لتكون لها قرابة بشجرة عائلته، ولكي تتجسّس على نسائه!
187
تعلّمت منه أن تتحاور مع الكون عبر السلّم الموسيقي للصمت. هي التي نبتت كزهرة بريّة بين شقوق الصخور، الآن فقط تعلّمت أن تصغي إلى ما ظنّته بلا صوت: حفيف الكائنات، في ذلك العالم السرّي الذي نعيش بمحاذاته.
وعندما تنتهي من نزهتها تلك، تعود لتمشي في أدغال الحياة. فراشة بين وحوشه الضارية. سنتان مرّتا على وجودها في الشرق ولم تصادق أحداً من الوسط الفنّي، عدا فراس.
اغرس شجرة تردَّ لك الجميل، تُطعمك من ثمارها، وتُمدك بسبعة ليترات أكسجين يومياً، أو على الأقلّ تظللّك وتجمّل حياتك بخضارها، وتدعُ أغصانها الوارفة العصافير، لتزقزق في حديقتك. تأتي بإنسان وتزرعه في تربتك.. فيقتلعك أوّل مايقوى عوده، يتمدّد ويعربش، يسرق ماءك كي ينمو أسرع منك، تستيقظ ذات صباح وإذا به أخذ مكانك، وأولم لأعدائك من سلال فاكهتك، ودعا الذئاب لتنهشك وتغتابك. كيف لا ينخرط المرء في حزب الشجر؟!
عندما شكت إلى نجلاء تلك المغنّية التي كانت تخالها صديقة، وراحت بسعادة تُسمعها الأغنية التي قدمها لها أحد الملحّنين لتكون ((ضربة الموسم)) وإذا بالمغنّية تتّصل بالملحّن تعرض عليه أضعاف ما قدّمته هي، فما كان من الملحّن إلا أن باعها إيّاها حتى من دون أن يعتذر أو يخبرها بذلك.
قالت نجلاء:
-هذا زمن الصداقات العابرة. لا يمكن أن تقيمي علاقة طويلة الأمد أو تراهني على أحد.
188
صاحت:
-لكن هذا عيب.. كيف لم تستح منيّ..
-وهل استحى الملحّن؟ إنه وسط بلا حياء ولا انتماء سوى لجيبه. أنت كنت جاهزة لأن تُقتلي لتؤدي في مأتم أبيك أغنية، وهم قد يمشون على جثة أحد للفوز بأغنية. عليك أن تتقّبلي الأمر أو تُغيري مهنتك!
تغير مهنتها؟! في الماضي كانت تخّبئ صوتها في محفظتها المدرسيّة، لا تخرجه إلا في الصفّ. ثم حين يدّق الجرس تعيده مجدداً إلى المحفظة. أمّا الآن فما عاد بإمكانها أن تفعل ذلك. كيف لبركان استيقظ، أن يبتلع حممه!
تذكّرت أنها لم تتّصل بفراس منذ مدّة. عندما تكون محبطة فقط تتذكّره، وتعاودها الرغبة في تعلّم العزف. غير أن قلبها يعزف هذه الأيام لحناً آخر. وكل ماتريده، هو استعادة العود.
قال لها وهو يعيده إليها:
-صودف أن زارني البارحة صديق عازف، فتعلّق به حين رويت له قصّته. عزف عليه بعض الوقت، ثمّ نبهّني إلى أنّك إذاً اكتفيت بالاحتفاظ به فوق خزانة، فلن يكون هذا العود سوى قطعة خشبيّة في بيتك. فالعود يتأثّر بالحرارة والرطوبة ويفقد صوته كما البشر. عليك أن تواظبي على صيانته، وأن تسلميه لأحد بين الحين والآخر كي يُعيد دوزنته، وشدّ حباله، ويعزف عليه ليمدّ في حياته، وإلاّ خسرته. في الواقع لديه أمنية ، أن يستعيره ذات مرة ليعزف عليه في إحدى الحفلات. إنه واحد من خيرة موسيقيّينا. بإمكانك أن تثقي به.
189
أقنعها بصواب رأيه، برغم إحساسها أنه في كل هذا يريد أن يضمن تردّدها إليه.
انتهى بها الأمر أن تركت العود لديه. ليس هناك سواه أهلٌ لأمانة كهذه. بإمكانها استعادته لاحقاً متى شاءت. لا وقت لها لتصون صوتها وقلبها وأمّها، فكيف تزيد على ذلك صيانة العود والاطمئنان على صحّته!
قالت لتبررّ قرارها:
-يعنيني العود لقيمته العاطفيّة، في الواقع أنا ابنة الناي. إنه الأقرب لوجداني. لكن إحساسي بالموسيقى تغيّر، بدأت أميل إلى الكمنجة والبيانو.
أجاب:
- إن تربّيت على الناي، يظلّ يناديك أينما كنت، فتلحقين به، كما لحقت في تلك الأسطورة الطيور والحيوانات جميعها بأورفيوس، وهو يعزف على نايه.
سألته متعجبّة:
-هل تفهم في الناي أيضاً؟
ردّ مباهياً:
-أنا حلبيّ.. لقد جاءنا الناي مكرّماً قبل قرون، يوم أقام جلال الدين الرومي في حلب، فهو الآلة الموسيقية الأولى لدى الصوفيّة. إنه يرافق الدراويش في دورانهم حول أنفسهم. أما في ((المولويّة)) الطريقة التي تنتمي لها عائلتي، فوحدها الدفوف ترافق الراقصين.
علقت بإعجاب:
-يا الله.. كيف تعرف كلّ هذا؟
190
ردّ مزهواً:
-ما من حلبيّ إلا قرابة بإحدى الطرق الصوفيّة.
غمرتها سعادة من وقع على سرّ جميل. لعلّ هذا ما جاء بأبيها إلى حلب. شعرت بانجذاب روحي إلى هذا الشاب الذي لا يوحي مظهره العصري أنّ وجدانه يحلّق عالياً في سماء المتصّوفة.
سألته كيف بإمكانها أن تصطحب أمّها لحضور إحدى هذه الحلقات، فذلك سيسعدها حتماً.
قال:
-بإمكانك حضور الحفلات التي تقدّمها الفرق الصوفيّة في شهر رمضان في القاعات، وأحياناً في القصور والبيوت العتيقة. امنحيني سعادة أن أدعوكما في أوّل مناسبة. سترين أن لا شيء يضاهي سهرة في ضيافة الدراويش.
((ذهب الذين أحبّهم وبقيت مثل السيف فردَا.))
عمرو بن معد يكرب
وجدت في قدوم عمّتها من الجزائر لزيارتهم نعمةً نزلت من السماء. عساها تشغل أمّها قليلاً عن هواجسها. في الواقع، منذ الأمير عبد القادر، لم تفرغ سوريا يوماً من الجزائريين، دوماً أشرعت لهم قلبها ودخلوها من دون تأشيرة. وهكذا أصبح على أمّها أن تشرّع بدورها بيتها لاستقبال الوافدين من أقارب وأصدقاء.
جاءت العمّة محّملة بما طلبت منها أمّها إحضاره، حاجات تعّز عليها، وما استطاعت حملها يوم غادروا. أشياء لها قيمة عاطفيّة، أما ما عداها فما عاد يعنيها. لقد تركت البيت على حاله لأخي زوجها. ثمّة خسارات كبيرة إلى حد لا خسارة بعدها تستحق الحزن.
قالت أمّها وهي تأخذ قرارها ((البيت برجاله لا بجدرانه، ومن كانو يصنعون بهجة البيت غادروه، فما نفعه بعدهم)). كان عمّها منصفاً، أبى إلا أن يدفع ثمن البيت، بما ادّخر من مالٍ أثناء عمله في فرنسا. هكذا تمكّنوا من شراء شقّة في الشام.
194
لقد عاشت أمّها الفاجعة نفسها في سنة 1982 يوم غادرت حماه وهي صبية مع والدتها وإخوتها، لتقيم لدى أخوالها في حلب، ما استطاعوا العيش في بيت ذُبح فيه والدهم، وهم مختبئون تحت الأسرّة. سمعوا صوته وهو يستجدي قَتَلته، ثم شهقة موته وصوت ارتطام جسده بالأرض، عندما غادروا مخابئهم بعد وقت، كان أرضاً وسط بركة دمّ، رأسه شبه مفصول عن جسده، ولحيته مخضّبة بدمه. كانت لحيته هي شبهته، فقد دخل الجيش إلى حماه لينظّفها من الإسلاميين، فمحاها من الوجود.
الأشدّ ألماً أنّ رجلاً في مقامه دُفن سراً، كما يُدفن قطاع الطرق على عجل، رقم بين الأرقام. لا أحد مشى في جنازته، ولا أحد عزّى فيه. كانت حماه الورعة التقيّة، تدفن ثلاثين ألف قتيل في بضعة أيام، بعضهم دفن الوديعة في جنح الظلام. كان ثمة زحمة موت، لذا لم يحظ الراحلون بدمع كثير. وحدهم الموتى كانوا يمشون بعضهم في جنازات بعض.
هي لم تنس شيئاً. لقد عقدت هدنةً مع الذاكرة، ليس أكثر. لكن بين مدٍّ وجزر، كانت الذكريات تعود كما الأمواج. إنها الأمواج العاتية للحياة، تقذف بها مرة أخرى إلى الشاطئ نفسه، الذي غادرته قبل ثلاثين سنة، عندما تزوّجت ذلك الجزائري هرباً إلى أبعد مكان عن رائحة الموت، لكن الموت عاد بها، هاربة مرّة أخرى من حيث جاءت، فهل كانت تحمله في حقائبها، ليكون لها قدر غريب كهذا؟
كان الموت نفسه ينتظرها في سيناريو آخر. هذه المّرة ليس الجيش هو الذي يقتل الأبرياء بشبهة إسلامهم، بل الإرهابيون يقتلون الناس بذريعة أنهم أقل إسلاماً مما يجب!
195
كانت امرأة منهكة، أكسبتها الفجائع حكمة الضحية. لا تتوقفّ عن التمتمة مُسبحة، مُتأمّلة هشاشة الوجود الإنسانيّ وعبثّيته. ما ترك لها القدر فرصة لنضج طبيعي. كان عليها أن تدفعها، وهي ترى الآن قدرها يتكرر مع ابنتها.
كمن يعيش عمليّة بتر عضو من أعضائه دون تخدير، كان عليها أن تعيش فجائعها وهي في كامل وعيها. أن يشرعوا الباب كلّ مرة، ليدخلوا عليها تارة بجثّة زوجها، وأخرى بجثّة ابنها، وأن تواصل الحياة برغم ذلك مع قَتلتِهما. ليس الألم الأعظم أن تدفن أباك بل أن تدفن ابنك.
كانت العمة تحمل أخباراً سارّة.
-الحمد لله رانا في رحمة ربّي.. ارجع النا الأمان يا هند يا اختي.. يا ريتك صبرتي شويّة.
-ما قدرتش انعيش مع اللي قتلوا ولدي وقتلوا راجلي.. لو قعدت هناك كنت متّ والّا قتلت حدّ.
-الناس كلّهم صابرين.. واللي ما عندوش وين يروح واش يدير.. نوّكلوا عليهم ربي ((يا قاتل الروح وين تروح))!
تدخّلت لتلّطف الأجواء، قالت موجّهة الحديث لعمّتها:
-إمي حابة تعمل متل الحاجة الزهرة في قسنطينة.. جاوا إرهابيين في عمر إبنا أخدوا إبنا في الليل وقتلو قدّاما وهي تبكي وتحاول فيهم. ولما عرفتهم راحت جابت رشاش mat49 تدرّبت عليه وقتلتهم.. وصارت ما عندا شغله غير ملاحقة الإرهابيين. رفضت
196
تعترف بقانون الرحمة، قالت ((ناخذ حقي بيدي.. اللي ما رحمنيش ما نرحموش..)).
قالت الأمّ متعجبة:
-ما سمعت هالقصة.. إمتى صارت؟
ردّت:
-لما كنّا بالجزائر.. سمتها الصحافة ((جميلة بوحيرد الثانية)). شيء ما بيتصدّق.. مرا عمرا ستّين سنة قتلت خمسين إرهابي!
واصلت مازحة وهي ترى أمها مأخوذة بالقصة:
-خفت وقتا بحكيلك عنّا تروحي تجيبي رشاش وانصير نص العايلة مقتولة.. ونص قتلة!
ضحكت. لا بد من ممازحة الموت أحياناً وإلا قتلك قبل أوانك.
علّقت العمة من تحت حجابها:
-أحنا مومنين يا بنتي.. والانتقام صفة من صفات الله وحدو هو ((المنتقم)) اللي يجيب لك حقك. لو بقينا كلّ واحد ياخذ ثاروا بيدّو عمرها ما تخلاص، اللي ماتوا مش رايحين يرجعوا، لكن البلاد تروح. الحق.. في هذه بوتفليقة يعطيه الصحة.. يرحم والديه عمل شيء ما حد غيرو كان قدر عليه. ما كانش حاجة في الدنيا أغلى من الأمان.. قليل واش فات علينا في عشر سنين!
لكن أمّها ليست جاهزة للغفران، هي لم تغفر حتّى الآن لمن قتلوا أباها قبل ثلاثين سنة في حماه، فكيف تغفر لمن أخذوا منها ابنها وزوجها قبل عامين. رفضت قبول الدية التي قدّمتها الدولة لأهالي ضحايا الأرهاب. كيف تقبل دية عن جرائم، هي بحسب قانون العفو العام والوئام الوطني، لم تحدث، ويسقط عن مرتكبيها حق الملاحقة، مها كانت فظاعتها.
197
كلّ وجعها جاء من هنا.
لأنّ أمن الوطن لا يتحقّق إلّا على حساب العدل، عمّ السلم المدني، وفُقد السلام الذاتي. فالضحايا ليست لهم صفة الضحية، ما دام المجرم لا يحمل صفة مجرم.
كلّ ماحدث إذاً على مدى عشر سنوات لم يكن. ليس عليك أن تسأل كيف مات المئتا ألف قتيل، وعلى يد من؟ لربما ماتوا في كارثة طبيعيّة!
وعلى آلاف المغتصبات أن يتحمّلن وحدهن عقاب ما أنجبن من لقطاء. وليبحث لاحقاً كلّ لقيط عن أب، فقد عفا القانون عن المغتصب!
وعلى أهالي المفقودين أن يكفّوا عن إزعاج الناس بالتظاهر ، وليغفروا لوطن فقد هو أيضاً صوابه!
وعلى ابن الرئيس محمد بوضياف أن يتوقّف عن مطاردة الحقيقة، ومساءلة الدولة عمّن اغتال أباه، فجرائم الدولة أيضاً يشملها قانون العفو!
أكثر من جنون الإجرام، يطالبك الوطن الآن بجنون الغفران. وبعد واجب التذكّر، أصبح المطلوب أن ننسى، لأن القاتل هذه المرّة جزائريّ، وليس فرنسياً. لقد عاد من نوبة جنونه أتقى وأكثر وطنيّة منك. والإرهابيون الذين كانوا يحرقون الأعلام الوطنية حالما يصلون إلى قرية، ينزلون الآن من الجبال وهم يعرفونها. والذين طال عنفهم، حدّ نبش عظام شهداء الثورة وإحراقها، لأنهم أسهموا بجهادهم في ولادة دولة علمانية، هم الآن يتنافسون على إثبات ولائهم للدولة كي يفوزوا بكرمها.
198
أيقظت زيارة عمّتها كثيراً من مواجعها، فهي لم تثبت إلى اليوم على رأي، هل الأهم إنقاذ الوطن أم تطبيق العدالة؟ وهل عليها أن تفكرّ كمواطنة أم كإنسانة؟
ما يعنيها الآن أنّ أمّها تبدو سعيدة، تتسامر مع عمّتها، وترافقها نهاراً للأسواق، هذا يتيح لها السفر دون شعور بالذنب. فهي لا تحبّ أن تترك أمّها بمفردها، وعليها أن تلبّي عدّة دعوات لتقديم حفلات في أكثر من بلد. لكأنّ الجميع اكتشفها في الوقت نفسه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق