الحركة الرابعة
((لم أنلها مرّة كاملة، كانت تشبه الحياة.))
مارسيل بروست
كما تمنّت عليه، قرّر في اليوم التالي العشاء في الجناح .
كانت ليلة صيفيّة حالمة. أمر أن تُمدّ الطاولة في الشرفة المطلّة على منظر أخّاذ، حدائق بهندسات جميلة، مُبالَغ في الاعتناء بتصاميمها ،وبتشكيلة ورودها، تتوسّطها نوافير يصل خريرها إلى مسامعهما.
أرتدتْ ثوباً يليق بجمال الجلسة، وبأناقة بذلته التي كانت توحي أنهما ذاهبان لحفل ما .
استعادت عافيتها وهي ترى ذلك المنظر المفتوح على شساعه السماء. أخيراً، نجت من سطوة الفخامه المهيبة، وما أيقظت فيها من أسى لا تعرف سبباً. فكّرت أنّ الطبيعة مهما كانت باهرة وخرافيّة، لا تشعرك بالنقص، ولا تلحق بك تشوّهات نفسيّة. أنت لا تصغر وأنت تتأمّل شلّالات نياغرا الشاهقة، برغم ضخامتها ،لأنّك في الأصل كائن مائي، إنك ابن ذاك الشلاّل، ولا تصاب بعقدة نقص وأنت عند سفوح
268
الهملايا، برغم كونها أعلى قمّة في العالم، فأنت ابن تلك الجبال، لأنك من تراب .
ثمّ تثري وتبني لك قصراً، في ضخامة كاتدرائيّة تناطح السماء، وإذا بك تصغر كلّما وقفتَ أمامه. إنّها خدعة الاحجام. لقد خُلقت المساجد والكاتدرائّيات لتقزّم الإنسان، لأنّها بُنيت على قياس عظمة الله لا على قياسك، فهي بيوته.
لكن الإنسان يواصل بناء الأبراج معتقداً كلما قزّمته، أنه يزداد بطولها عظمة، وأنه يُنسب إليها لا إلى التراب. ويبالغ في تزيين جدران قصوره بالذهب، وإذا بمعدنه يصدأ بينما يلمع كلّ شيء من حوله. من أين له هذا الغرور، والحجارة التي رفع بها أبراجه من خلق الله؟ ليتواضع قليلاً، ما دام عاجزاً عن خلق أصغر زهرة بريّة تنبت عند أقدام قصره. فبمعجزتها، عليه أن يقيس حجمه.
لم تقل له شيئاً ممّا يجول بذهنها، ربّما اعتقد كما عند الصباح، أنّها تتفلسف، بينما هي تتحدّث عن الشيء الوحيد الذي تعرفه حقاً: الطبيعة.
كان مشغولاً باختيار زجاجة نبيذ يليق طعمها بمزاج سهرته تلك. رجلٌ به مسٌ من كروم، يحتسي نشوته بأناقة. ذواقةٌ لا يقرب زجاجة نبيذ قبل أن يدقق في سيرتها الذاتية. يبدو وهو ممسكاً بكأسه، جاهزاً لافتراس الحياة بشاعريّة.
في الواقع هو يعاني من كآبة من تتعذّر عليه السعادة. كلّما اعتقد أنّه بلغها، سمع وقع خطاه عائدة به إلى حيث كان. حتّى وجود هذه الفتاة التي تمنّاها كثيراً، يعود به إلى مكمن حزنه، الذي لسرٍّ ما، يستيقظ عندما يكون أقرب إلى التجلّي نشوة.
269
قال لها وهي تشير إلى النادل ألّا يسكب نبيذاً في كأسها:
-لا تدرين ما أنت تخسرين!
اكتفت بالابتسام.
لعلها ليلة مناسبة لجني متعة تأخّر قطافها. هذه المّرة سيأخذ ما حافظت عليه طويلاً، وقد تمنحه لغيره. انتابه الإحساس مذ رآها تحادث ذينك الرجلين على مرأى منه. كانت تبدو سعيدة، وحميميّة. لقد أعطتهما في تواطؤ ضحكة، ما لم تعطه إياه خلال عامين. في عرفه، يمكن للضحكة أن تكون فعل خيانة، إنها انصهار كائنين لحظة انشراح. لكن لا بأس، ليستمتع بوقته، لمَ كلّ هذا الأسى وهو ماتوقّع يوماً من النساء الوفاء؟
سألها:
-متى حجزت عودتك إلى الشام؟
أجابت:
-أغادر بعد أربعة أيّام.
علّق:
-تباً لهذه الاجتماعات. لقد مرّ الوقت بسرعة. سأسعى إلى أن نقضي وقتاً أطول معاً.
قالت:
-لا أفهم أن تكون مشغولاً دائماً.
ردّت الكأس الأولى:
-عليّ أن أتعب لينعم الآخرون برخاءٍ أكبر بعدي.
-رجاءً.. لا تُصبني بالرعب.. أمامنا أيّام جميلة.
-عزيزتي، القلقون يغادرون أوّلاً. هكذا هي الحياة.
-أنت من اخترت أن تكون لك مع الحياة هذه العلاقة العاصفة.
270
أجابت الكأس الثانية بتهكّم:
-أحبّ أن أنفق ثروتي في إغراء الحياة.. ما دام مالي سينتهي لدى رجال سيبرعون في إغراء نسائي!
-نساؤك!
-أعني زوجتي وابنتيّ! زوجتي ما زالت جميلة. وستعاود الزواج من بعدي، وكذلك ابنتاي، سيتدافع الرجال للفوز بأوراق اليانصيب الرابحة!
-ولماذا أنت واثق إلى هذا الحدّ مّما سيحدث؟
أجابت الكأس الثالثة:
-لأنّني لا أثق بالنساء، لا أمّي انتظرت أبي، ولا تلك الفتاة التي أحببتها انتظرتني يوم سافرت إلى البرازيل.
-ما أدراك بظروفهنّ. ثمّ، لو أنّ تلك الفتاة انتظرتك، لبقيت في بيروت ولما حققت كل هذه المكاسب. إنّ الحياة لا تعطيك شيئاً إن لم تأخذ منك مقابله شيئاً آخر.
ضحكت الكأس الرابعة وأجاب بتهّكم مُرّ:
-تعنين ما أعطتني من مال؟ وما نفع مال يفقدك ما هو أثمن منه؟ الثراء نفسه عندما يزيد على حده يصبح خطراً على صاحبه.
لم تدر كيف تجيبه. هي لم تختبر خطراً كهذا، برغم مُعايشتها لكوكتيل من المخاطر. ((خطر الثراء)) نكتة بالنسبة إلى فتاة كانت تخاطر بحياتها أيّام الإرهابيّين كي تحافظ على دخلها الزهيد من التدريس.
ألهذا يستنجد الأثرياء بالآخرين، كي يساعدوهم على ذلك التبذير الفاحش للمال، خشية أن يفتك بهم مالهم إذا انفرد بهم؟
271
قالت له شيئاً صادقاً في سذاجته:
-تدري.. كثيراً ما أتمنّى ان تُفلس كي ينفضّ الجميع من حولك.. فلا يبقى لك سواي.
أجاب بما بدا لها اعترافاً عشقياً:
-وهل لي سواك؟
تنهّدت. أصفار كثيرة بينهما تجعلها لا تصدّقه. وهو أيضاً لا يصدّقها، إلّا يوم تتخلّى عن كلّ شيء من أجله، وتصبح فقيرة إليه.
سألته وقد بدأت تنحاز لأوهامها:
-حقاً ليس لك سواي؟
أجابتها الكأس الخامسة:
-لي أيضاً كلب أحبّه. تلقيّته من امرأة أحبتّني، أظنّها حارت ماذا تهدي لي، لاعتقادها أنّني أملك كلّ شيء، فأهدت لي كلباً. قالت إنها هدية لن يجرؤ أحد في البيت على التخلص منها. كانت مكيدة ناجحة، ما دام الكلب يعيش بيننا منذ أربع سنوات.
عاودها الشعور بالغيرة. سألته:
-أأنت متعلقّ بالكلب أم بصاحبته؟
أجاب بنبرة جادّة:
-بالكلب طبعاً! كان هديّة وداع. صاحبته كانت أجنبيّة، تُعطي أهمّية للالتفاتة الأخيرة التي تُنهي علاقة. هذا أمر لن تجديه عند العربيّات. أنت لا تعرفين من تُحبّين حقاً إلا عند الانفصال.
-وهل يعيش هذا الكلب معك في باريس؟
-أخذته قبل أربع سنوات إلى بيروت، وما زال هناك.
-تبدو جدّ متعلّق به..
-طبعاً.. ((كلب صديق ولا صديق كلب)).
واصلت الكأس السادسة:
-لا تراهني على وفاء أحد عدا الكلاب. أُحبّ ذلك الوفاء الصامت، والإخلاص الذي لا مقابل له. أنت لا تتبادلين مع الكلب كلاماً، لذا لا كذب بينكما، لا نفاق، لا سوء فهم، لا وعود، لا خذلان. المرء بالنسبة إلى كلبه ((سيّد)) حتّى وإن كان متشرّداً دون مأوى. يظلّ الكلب رفيق تشرّده في الشوارع. سيخلص له مدى حياته، سواء أكان سيّده جميلاً أم قبيحاً، شاباً أم عجوزاً، ذا جاهٍ أم مفلساً، هل تضمنين هذه الخصال في أقرب الناس إليك؟
لم تُجبه. ما كان السؤال موجّهاً إليها. هو حتماً يعرف الجواب. رأته يسكب بتأنٍّ ما بدا لها الكأس الأخيرة. واصل وهو يحرّك كأسه في حركة دائريّة قبل أن يحتسي منها رشفة:
-كلبي يعيش مدلّلاً في بيروت، أنا الذي أعيش حياة كلب، لاهثاً بين القارات والاجتماعات. هل لاحظت أن الكلب المتشرّد الذي لا سيّد له، يتبعك ويظل يمشي خلفك حتّى تتبنّيه؟ أمّا الكلب الذي يخرج في نزهة مع سيّده، فهو يركض أمامه حتّى ليصعب على سّيده اللحاق به. إنّ الذين ترينهم في الأمام لاهثين دوماً خلف الأشياء، ليسوا السادة بل الكلاب. السادة لا يلهثون خلف شيء بل تأتيهم الأشياء لاهثة. لكنّ الكلب، وهو يركض سعيداً أمام سيّده، يعتقد أنه سيّد، إنّه لا ينتبه ألى أنّ من ينتظره حبلٌ سيعيده إلى بيت الطاعة يظل كلباً!
أمام صمتها ودهشتها لحديثه قال معلقاً:
-لا تُجهدي نفسك بفهم ما قلت، العرب لا يفهمون شيئاً في الكلاب، لذا ترين شعوباً كاملة مهرولة خلف طغاتها تستجدي أبّوتها!
273
واصل وهو يسكب في كأسه قعر الزجاجة ويُعيدها فارغة إلى مكانها:
-ليتك تفهمين على الأقل في النبيذ.. هذه سنة استثنائيّة نادراً ماتتوفّر!
قالت ممازحة:
-لكني أفهم أنها ثمينة ما دامت استثنائية.
ردّ:
الناس اليوم يعرفون ثمن الأشياء ولا يعرفون قيمتها.. بكم تقيّمين سعادة كهذه؟
أجابت لتنجو من فخ السؤال:
-لحظات الحبّ الجميلة لا تُثمّن.
-لكن، جميل أن تدفعي ثمنها، حتى لو كان الآخر لا يدري كم دفعت. الثمن جزء من مزاجك. من نشوتك.
ما كان يدري أنّ الثمن كان جزءاً من تعاستها، وسبب تعكير مزاجها. كم عملت في حياتها الماضية من أشهر، مقابل تلك الزجاجة التي فتحها احتفاءً بها وهي الآن فارغة أمامها.
قال:
-ما دمت تصرّين على ألّا تقاسميني نشوة النبيذ فلا بدّ أن أعلّمك لعبة الشطرنج، على الأقلّ لتقاسميني متعة جولة أو جولتين عندما نكون معاً.
فاجأها العرض. أجابت بخجل:
-لا أظنني سأوفَّق، أنا لم أقرب هذه اللعبة يوماً!
واصل مازحاً:
274
-اطمئنّي، ليست لعبة الشطرنج حراماً، إنّها محرّمة على الأغبياء فحسب.
ردّت كمن يعتذر:
-إذاً هي ليست لي. وعلى علمي هي لعبة للرجال.
-هي لعبة الملوك والأذكياء، ولا بأس أن تجرّبي، إذا أحببتها تتعلّقين بها. إن انتظار الجولة أهمّ من الجولة نفسها. تدرين، لي لعبة في كلّ بيت. بعضها مفتوحة على جولة بدأتها قبل أشهر مع أحدهم، وتنتظر أن نلتقي مجدّداً لنكملها. ثّمة جولات تدوم سنوات.. ثمّ يلتقي اللاعبون يوماً، يزيحون الغبار عن الشطرنج ويواصلون جولتهم من حيث توقّفوا. في الشطرنج اللاعب الثالث في كلّ طاولة هو الزمن. أحبّ رؤية رقعة شطرند تنتظرني، إنّها مشروع موعد مع الحياة، هذا يعني أنّني سأعيش حتّى أكمل الجولة!
أخذ رشفة من كأسه ثم واصل:
-ثمّة أناسُ ليسوا أهلاً لعيونهم ولا لقلوبهم ولا لسمعهم. بربّك، ماذا يفعلون على هذه الأرض إن كانوا لا يستثمرون حتّى حواسّهم؟ كيف أتساوى مع هؤلاء في معدّل الحياة؟ رجل مثلي لا بدّ أن يعيش 500 سنة ليواصل الاستماع لشتراوس ورافيل وفيفالدي، ويجلس أمام هذا المنظر الجميل مع امرأة جميلة، ويفتح زجاجة نبيذ فاخرة نخب هذه الأنثى اللعوب التي تُدعى الحياة!
لم تجد سبباً لحزنه. لربّما خسر صفقة أو عقداً ما.
قالت:
-أراك تملك كلّ أسباب السعادة، ولا أرى سبباً لتذمّرك.
ضحكت زجاجة النبيذ الفارغة، وقال الرّجل الثّمل:
275
-السعادة ليست في ما تملك، لكنّ الشقاء في ما لا تملك. غالباً ليس بإمكان ما تملكه أن يصنع سعادتك، بينما ما تفتقده هو الذي يصنع تعاستك.
-إنها النفس البشريّة لا تعرف القناعة، صدقاً لا أرى ما الذي ينقصك لتكون سعيداً.
أجابها بما فاجأها:
-ينقصني كلّ ما لا يُشترى.. وتملكين.
ردّت متعّجبة، بنبرة لا تخلو من السخريّة:
-وماذا أملك؟!
كان سيقول الشباب، الموهبة، الصحّة.
لكن الزجاجة الفارغة قالت:
-الشجاعة.
-الشجاعة؟!
-طبعاً. نحن كّلما ازددنا ثراءً ازددنا جبناً، خوفاً على مكاسبنا.. أحسدك على خساراتك لأنّها ما عادت في متناولي..
كان عليها أن تضحك.. رجل كانت تحسده على مكاسبه، فإذا به يحسدها على خسارتها.
أضاف كما لو أنّه تذكّر شيئاً:
-وأيضاً على طمأنينتك.. أنت تثقين بالجميع.. أنا لا أثق بأحد.
تدرين شقاء إنسان قدره ألّا يصدق أحداً، لأنّ لا أحد يحبّه لنفسه.
لم تدرِ بماذا تجيبه. قالت كمن يعتذر:
-ليتني أستطيع أن أعطيك ما تريده.
276
ردّ قعر الزجاجة:
-ما أريده هو صبيّ.. صبيّ يحمل اسمي، يرث ثروتي، يحرس شرفي.. لكنّها أمنية مستحيلة. زوجتي لا تستطيع أن تُرزق طفلاً ثالثاً. وهذه قسمتي في الحياة. لن أطّلقها، ولن ألجأ لذرائع دينّية لأتزوّج عليها. إنّها أمّ بناتي وأنا أحبّها.
اجتاحها حزن من سمع حكماً بالأحلام الشاقّة. سألته بنبرة محطّمة:
-وأنا؟
-أنتِ أمّ ابني الذي لن يأتي..
الحقيقة كانت تكمن في قاع الزجاجة.. كانت الساعة الثالثة فجراً حين سكت النبيذ عن الكلام المُباح، لملمت بوحه من قاع الكؤوس الفارغة، وغادرت المائدة. لحق بها إلى الداخل كان ثملاً ومتعباً، شرع يقبّلها، لكن قلبها كان مزدحماً بغيوم كلماته، وبسعادة باذخة مفخّخة بالحزن.
قالت:
-تصبح على خير.
أمسك بيدها وهي تهّم باجتياز الباب إلى جناحها. قال:
-تقدّم الليل بنا. أتأذنين لي بمواصلة السهرة في ضيافتك؟
أمام صمتها واصل:
-لنقل إنّي أردّ لك الزيارة!
سبقته، وتركت الباب خلفها مفتوحاً.
277
سيّد الباب، اجتاز الباب. هي ما أغلقت الباب يوماً، ولا هي أشرعته. دوماً تركته موارباً. لو أغلقته لعاتبها قلبها، ولو تركته مفتوحاً لأنّبها ضميرها.
تركت للرّيح قرار صفْقة أو فتحه على مصراعيه.
الريح؟ هي تعني القدر، التي تملك مفاتيح الأبواب وأقفالها. أمّا هي، فتلهو بفتح نوافذ الأحلام.
هو ذا الجسد المشتهى. لطالما قاومت إغراء رجولته، في جاذبية نضجها، ووقفت بين تجاذبات المشاعر والشعائر، عند عتبات الشهوة المستبدة. ثمة شهوات لم تُخلق لتعاش، وما دمنا لا نعيشها، تعيش فينا. لذا، مذ دخل هذا الرجل إلى حياتها وهو يحتلّ أحلامها.
الآن، هو يحاول اجتياحها على سرير. كبركان استيقظ للتوّ، راحت قُبلُه تتدفّق حمماً على أنوثتها. دوماً بدت له مستودع قشّ قاب حريق منه.
يريد أن يشعلها هذه الصبيّة ذات الأحلام البريئة. لربّما ثمل ولا يستطيع أن يحتسيها دفعة واحدة. يودّ الاستحواذ على مباهجها جميعها. تمنّى لو تنساه في سريرها لأكثر من ليلة، كمن يُنسى ليلة عيد في متجر لبيع الهدايا.
زاد تمنّعها من اشتهائه لها، هو مفاوض طويل النفس، سيفاوض كلّ مساحة فيها على حدة حتّى تستسلم له. صبر عليها كثيراً، وإن لم يقطفها الليلة فسيجنى سواه ثمارها، ربما أشعل فتيلها رجل سيأتي بعده. لكن، مَن سواه يعرف نفخ النار في جمر الصبايا، من دون أن يبطئ فتنطفئ الشعلة، أو يُسرع فيضرم ناراً تأتي على كلّ شيء؟
278
لكنّ الزجاجة الفارغة أفقدته صبر الصائد، وحنكته في ضبط هنيهة الانقضاض.
ألم يقل الجواهري:
((ينقضُ عجلان فيُفلت صيدهُ ويُصيبه لو أحسن الإبطاء)).
وهو ما أحسن الإبطاء. وها هو جسدها يستعيد فجأة ذاكرته القبليّة، ورجال قبيلتها يباشرون نوبة حراستهم، وقد خالهم غادروا.
هي تريده لكن ليس حدّ فقدان صوابها. لقد قال في تلك السهرة ما يكفي لتعي أنه لن يكون يوماً لها. فبأيّ حق يحوم في البساتين المحرّمة.
قاطف الورود فوق الشبهات، وحدها ستحمل وزر خطيئتها، من يصدّق براءة وردة ذنبُها عطرها؟
تمتمت وهو يحاول أن يخلع عن الوردة أوراقها:
-لا أستطيع..
لكأنها قالت ((لا تستطيع)).
كان يكفي كلمة واحدة لتطفئ توهّج اندفاعه، وتسكب الماء على نيرانه. كجندي سقط قبل أن يحارب، لم يسعفه الوقت لإنجاز ما تهّيأ له طويلاً. لقد استعدّ لهذه المتعة بزجاجة نبيذ فاخرة. لكن العنب والوردة تآمرا عليه. ((إنها جولة مؤجّلة)) قالت رجولته مكابرةً.
ضمّها إليه وغرق في نوم لذيذ.
ظلّت طويلاً مستيقظة من بعده، تستمع إلى أنفاسه على مقربة منها. نامت وهي تفكّر في غطاء الزجاجة الذي غافلته وأخذته عن
279
الطاولة، ودسّته في حقيبة يدها، ذكرى لزجاجة نبيذ كانت أغلى من كلّ توقعاتها.
هي الحياة، لا ندري ونحن نجلس إلى مائدة مباهجها، ماذا تراها تسكب لنا في أقداحنا. في الواقع، لسنا من نختار مشروبنا، نحن نختار النديم. أما الندم، فيختاره لنا القدر.
ها قد أصبح لديها مؤونة كاملة من الذكريات. أشياء صغيرة تتشبث بها، ستواصل الاستماع إلى ثرثرتها يوم يصمت الحب.
***
أمام فطور الصباح، حاولت أن تكون مرحة، قالت:
-كنت تحتاج إليّ البارحة حاجة مذنب إلى قسّ، وحين انتهيت من اعترافاتك خلدت إلى النوم. أسعدني أن أكون قسّك..
رفع يدها يقبّلها قال:
-وحبيبتي..
واصلت بروح الدعابة:
-وأمّ ابنك الذي لن يجئ!
توقّف لحظة عن احتساء قهوته، وبقي صامتاً طوال الفطور، يستمع إليها تحكي عن مشاريعها للذهاب إلى السوق، وزيارة بعض المعالم الفنَّية.
ما الذي دهاه ليبوح لها بهذا السرّ؟!
ككلّ صباح، كلّف السائق مرافقتها. قال وهو يضع قبلة على
خدّها:
280
-اعذريني. لي مواعيد مهّمة هذا الصباح. ربما رافقتك غداً.
أجابت ممازحة:
-ظننتك قرّرت البارحة أن تكفّ عن الحياة ككلب، لكنّي أراك تواصل اللّهاث كلّ صباح!
تلقّى كلمة ((كلب)) كصدمة. حاول أن يستوعب قولها.. أيكون قال لها هذا؟ وحين اكتملت لديه الصورة، تغيّر مزاجه. جلس في بهو الفندق ينتظر مواعيده، دون أن يرافقها إلى الباب كعادته.
يوم رآها لأوّل مرة في ذلك البرنامج، هشّة وقويّة، متمنّعة وشهّية، امرأة بأخلاق رجّاليّة، تتحدّى القتلة.. وتأبى الجلوس إلى طاولة اللصوص، فكر أنّها المرأة التي يمكن أن يأتمنها على ضعفه. أن يحكي لها ما لم يقله لامرأة. لم يشتهها، اشتهى أن يكون لها. فنحن نكبر أمام العالم، كي يكون لها الحقّ في أن نضعف أمام شخص واحد.
المأساة كونُنا كلّما كبرنا، صغر احتمال عثورنا على شخص، نقبل به شاهداً على ضعفنا الإنساني. وهو هذا الصباح النادم على كلّ ما احتفظ به سنوات لنفسه، ثم قدّمه لها في لحظة سُكْر، دون أن تعي قيمة ما منحها. أو لعلّها تعيها تماماً، وما ابتهاجها هذا الصباح إلّا لأنّها سرقت سرّه!
اعتاد في كلّ علاقة مع امرأة أن يُبقي مسافة للغموض. سطوته تكمن في سرّه. فكيف أفلت لسانه، فعرّى لها وجدانه، كاشفاً عن كدمات روحه؟
عادت ظهراً محمّلة بالمشتريات. اقتنت تحفاً للتذكار، كي تزيّن بها شقّتها الجديدة في بيروت، لكنّ أجمل مقتنياتها كان لعبة
281
شطرنج فاخرة. لم تكن ضمن برنامج مشترياتها، لكنها أُعجبت بها حدّ فقدان صوابها، ودفع مبلغ يتوقّف عنده سقف بطاقتها المصرفيّة. كانت لعبة تجسّد ولع فيينا بالموسقى، حدّ الاستعاضة عن قطع الشطرنج العاديّة، بعازفي فرقة موسيقيّة متقابلين، في لونين من كريستال شواروفسكي الأسود والأبيض. هي حتماً أغلى هديّة اشترتها في حياتها، لرجل لا تلمس يداه إلّا الأشياء الثمينة.
لن تخبر نجلاء بذلك. فقد سبق أن قالت لها ((أيّتها الغبيّة، لا تكوني سخيّة. الرجل يخيفه السخاء العاطفي، كوني بخيلة وضنينة حتّى في الكلام)).
غير أنّها أصرّت دائماً على أن تهدي له ما يفوق إمكاناتها، كي تثبت له أنّها إن لم تكن الأكثر ثراءً، فهي الأكثر سخاءً. كلّما صاحت نجلاء ((أجننت؟))، أجابتها ((هذا الرجل لن أكسبه إلّا بالخسارة!)).
كلّ خساراتها كانت مؤسّسة على الأنفة، فهي لم تنس نصيحة أحد الحكماء ((لا تعاشر ثرياً، فإن سايرته في الإنفاق أضر بك، وإن أنفق عليك أذلّك)).
استفادت من عودتها قبله، فأخفت في حقيبتها ما اشترته من مقتنيات تذكاريّة، تماثيل نصفّية صغيرة لأشهر موسيقيّي فيينا، أرادت أن يراها لأوّل مرّة حين يزور شقّتها في بيروت. فهي ما زالت تواظب على تأثيث تلك الشقة، مقتطعة مبلغاً شهرياً لدفع بدل إيجارها، على حساب كثير من حاجاتها، لمجرّد إدهاشه، يوم يزورها.
تريد أن تمحو من ذاكرته بؤس تلك الغرفة التي رآها تقيم فيها، يوم فاجأها في الفندق. نجلاء هي الوحيدة التي تدري بوجود تلك الشقة، لكنها لم تفهم أنها استأجرتها لرد الاعتبار إلى كرامتها. لقد
282
أثّثتها على ذوقه، لتريه أنّ الذوق لا ينقصها. تماماً كما في اختيارها لعبة الشطرنج الفريدة في تصميمها.
أخذت بطاقة من بطاقات الفندق الموجودة على المكتب، وكتبت له: ((تحتاج لعبة الشطرنج إلى لاعبين اثنين.. أجمل الجولات تلك التي تدوم عمراً)).
كان الباب إلى جناحه مفتوحاً كما يتركه عادة، فكّرت أن تخفي الهديّة مع البطاقة في خزانته. تريد أن تفاجئه، كما اعتاد أن يفاجئها، سيعثر عليها في غلافها المميّز، وشرائطها الجميلة، على رفّ علويّ، مع ثيابه.
عادت إلى جناحها لترتاح قليلاً قبل موعد العشاء. ثمّ انتابها الرّعب نفسه، قبل التوجّه إلى العشاء. ماذا لو صادفت مجدّداً الجزائريين وهي تغادر الفندق بصحبته. ستفتح عليها جبهتين: هو سيستشيط غيرة، وهما سيعّممان خبر وجودها بصحبة رجل! لن يكون بإمكانها اليوم أيضاً إقناعه بالعشاء في الجناح. ارتأت أن تهاتف الرجل الذي تحدثت إلى زوجته، كما لتسلّم عليه، ثم تستدرجه لتعرف منه مشاريعهما هذا المساء، كي تحدّد مكان وجوده.
كانت سعادته كبيرة بسماعها. تبادلا أخباراً وأحاديث عن الجزائر، ثم عرض عيها أن تنضم إليهم للعشاء. اعتذرت:
-أنا تاني حابة انشوفكم لكن اليوم راني مشغولة.. إن شالله نهار آخر..
ودّعته مطمئنّة. إنّهم الليلة في ضيافة السفير.
283
عاد أثناء ذلك. كان يهّم بدخول جناحها ليسلّم عليها، حين تناهى إلى سمعه حديثها على الهاتف بلهجة جزائريّة، لم يفهم منا إلّا الجملة الأخيرة.بقي واقفاً مكانه للحظات ، كما لو أنّه أمسك بها بالجرم المشهود. فقد تأكّد له ما توجّس منه قلبه. لقد أعطتهما رقم هاتفها، وهي في تواصل معهما. لن يفاتحها بالموضوع، هذه المرة ضربتها طالت كبرياءه. إنها تحادث غيره وهي في ضيافته وفي جناحه، وربّما كانت تستعمل سائقة لتلتقيهما مدّعية أنها تذهب للتسوّق. لكن لا بأس، سيواصل التغابي.
دخل إلى جناحها. قال وهو يقبّلها:
-اعذريني تركتك وحدك.. لقد أنهيت أعمالي وأنا لك تماماً.. سآخذك هذا المساء لحضور حفل موسيقي كبير بقيادة Jean Drieux. ليس سهلاً أبداً أن تحجزي مقاعد أماميّة في حفل كهذا، الأماكن محجوزة قبل أشهر. هل سمعت به؟
تمتمت كمن يعتذر عن ذنب:
-لا.
ردّ بحماسة:
-يا للنشوة! ستريْن كيف يتابع الناس حفله في حالة تجلّ كأنهم يحلّقون.. لا أفهم كيف يمكن أن تكوني فنّانة وأنت على هذا القدر من الأمِّيّة في الموسيقى!
لم تجد ما تقوله. إنّها ابنة الناي ولا ترى عيباً في كونها لم تتربَّ على الموسيقى الفيلارمونيّة.
كان يبدو سعيداً لسببٍ لم تعرفه إلّا حين أخبرها أنّه وقّع عقداً كبيراً، وأنّه سيتفرّغ لها لليومين الباقيين.
284
كانت الجلسة تبدو مشحونة بالاشتياق وبشبق الحياة.. لا شيء كان ينذر بالعاصفة.
إلى أن سألها:
-ماذا فعلت اليوم؟
ردّت:
-ذهبت إلى السوق ليس أكثر.
وحين لم يرَ أثراً لمشترياتها، تأكّد لديه أنها ذهبت للقاء ذلك الرجل.
قال:
-لكنّك لم تشتري شيئاً.
أجابت على استحياء:
-لست مهووسة بالتسوّق، ما يسعدني حقاً هو شراء هدايا تذكار للآخرين.
استنتج من كلامها أن ليس في حوزتها ما يكفي من المال. في جميع الحالات، سيقطع عليها حبل الكذب، سيرى إن كانت ستعود غداً من دون أن تشتري شيئاً. قصد الخزينة الموجودة في جناحه، أخرج حزمة من الأوراق النقديّة وعاد بها. قال وهو يمدّها بها:
-اشتري غداً هدايا لوالدتك، وما يحلو لك من أشياء.
كانت منهمكة في خلع حذائها. رفعت رأسها فرأته يمسك بحزمة أوراق نقدية. قالت وهي تشير بحركة من رأسها:
-لا أحتاج إلى مال!
بدا له أنّها قالت ((لا أحتاج إلى مالك)).
285
لكأنّ السماء أطبقت على الأرض. ألقى على طول ذراعه بحزمة الأوراق النقديّة، فتطاير بعضها على رأسها، وحطّت على الأريكة التي كانت تجلس عليها، وغطّت أخرى الأرض من حولها. وتغيّرت ملامحه لتصبح غريبة في توحّشها. راح يصرخ:
-من تكونيين أنت لتهينيني؟!
ردّت مذعورة تحت هول المفاجأة:
-مافعلت شيئاً يهينك. أنا فقط..
قاطعها:
-أنت تهينين مالي قصد إهانتي.. من تكونين لتتجرّئي على ذلك؟!
رجل لا يدري أنّ الكلمات كالرصاصة لا تستردّ، راح يُطلق عليها وابل رصاصه كيفما اتّفق، كانت الكلمات تأتي إليه كما تأتي الدموع إليها.. الكلمات التي تقتل لاحقاً. الكلمات الغيوم التي تمطر دمعاً في ما بعد. ذلك قررت أن تبقى واقفة، تتأمّل تدفّق حممه، دون أن تردّ عليه أو تنزل من عينيها دمعة، فهي لم تفهم أصلاً ما الذي حدث.
لعلّ ما زاد من تذمّره، صمتها وعدم تضرّعها طلباً لمغفرته. كانت فقط تنظر مذهولة إلى هذا الرجل الذي شوّه المال وجهه كما شوّه ((الديكوسين)) وجه رئيس أوكرانيا الوسيم فيكتور يوشينكو، يوم سمّموه، فبدا مسخاً عن وجهه الأصلي. ماذا لو كان هذا هو وجهه الحقيقي، الذي عرّاه المال وفخامة المكان. ((أعطه قناعاً تعرف وجهه الحقيقي)).
كما يسرقك المال من نفسك، يسرقك المكان بفخامته. ذلك أن كل شيء فخم هو شيطاني لأنّه زور. وهي مذ جاءت إلى هذا الفندق
286
ما أقامت يوماً معه.. بل مع شيطانه. الرجل الذي أحبتّه تركته في غابة بولونيا. كان بسيطاً ومتواضعاً وحنوناً، وهو يمشي بين الأشجار. الآن هو كمن يحاور شجرة بفأس، يتحدّث إليها بكلمات قاطعة حادّة. يهزّ شجرة قلبها بقوّة، فتتساقط أوراق أحلامها أرضاً، متناثرة كما أوراقه النقديّة.
شلاّلٌ من الدموع انهمر داخلها. لكنّها لم تنبس بكلمة ولا ذرفت دمعة، كما في عزّ مباهجها معه، كانت تشعر بأنّ ما تعيشه يحدث لامرأة غيرها. دون أن تستوعب ما يحدث لها، راحت تجمع أشياءها من الخزانة. ألقت إلى حقيبتها كل ماعثرت عليه. أصبحت في عجلة لمغادرة المكان.
حتّى آخر لحظة، توقّعت أنّها تحلم. لعلّه يمنعها من المغادرة. سيقول معتذراً إنّ غضبه تجاوز حدّه، ويطلب منها أن ترتدي ثياب السهرة ليذهبا معاً لحضور ذلك الحفل.
كانت تكفي كلمة لإنقاذ الحبّ. لكنّ الرجل الذي قضى أشهراً في انتقاء كلمات ترافق سلال ورده، ما عاد في قلبه كلمة لها. كل الكلمات تأتي الآن من جيبه لا من قلبه.
كان قد انسحب إلى جناحه تاركاً الباب بينهما مفتوحاً. لم تودّعه بكلمة. جرّت حقيبتها وأغلقت خلفها باب الجناح، بينما كانت موسيقى مقطوعة Ie bolero تنطلق حيث هو، بصوت مرتفع خلافاً للعادة.
كان كمن يصدم أحداً بسيارته، ولا يتوقف لإسعافه، ثم يواصل طريقه لحضور حفل موسيقي دون شعور بالذنب.
287
حاولت ألّا تنهار وهي تخلو بنفسها في المصعد. يظلّ المصعد أكثر رحمة، لأنّه ينزل بنا من أحلامنا الشاهقة طابقاً طابقاً، تفادياً لتهشيمنا لحظة ارتطامنا المدوّي بالأرض.
حتما هي تحلم. طلبت سيّارة أجرة. سارع أحد موظّفي الفندق لخدمتها، ووضع حقيبتها في الصندوق.
في السيّارة، تماسكت كي لا تخونا الدموع. واصلت تمثيل دور سيدة برجوانية تغادر فندقاً فاخراً، إلى أن سألها السائق ((إلى أين سيدتي؟)).
((إلى أين؟)) الجواب نكبة السؤال. لكن في موقف كهذا، السؤالن كما الجواب، نكبة. هي لا تعرف المدينة، ولا تعرف اللغة حتى لتشرح له ما تريد. لكنّها تعرف أنه ما عاد حوزتها ما يكفي للإقامة في فندق كبير، وأمامها ليلتان في انتظار رحلتها إلى الشام.
تركت للسائق مهمّة اختيار عنوانها. شرحت له بالفرنسية أنّها تريد فندقاً متوسطاً بسعر معقول، لا يهّم موقعه، فهي في جميع الحالات لن تغادره.
ليومين، رفضت أن تُخرج من الحقيبة أكثر من لوازم نومها. تركتها مغلقة. قضت معظم وقتها في السرير مع نفسها، تتأمّل كسوف أحلامها.
بكت كثيراً في غرفتها تلك. كانت تحتاج إلى هذا المكان الصغير لتستعيد حقها في البكاء. كانت تنزف وتدري أنّه الآن يبتسم بأنيابه ومخالبه، لعلمه أنه أدماها. إنّه الحبّ مفترساً نفسه. برغم ذلك
288
كانت ممتلئة كبرياءً، الكرامة كالشرف مرّة لا مرّتين. وهي لم تعطه هذا ولا ذاك.
هو نال منها لأنه لم ينلها.
لقد غادرته كبيرة، يكفي أنّ عليه الآن أن ينحني ليجمع كلّ الأوراق النقديّة التي فرشت الأرض كسجّاد.. إلّا إذا طلب من خدمة الغرف أن يبعثوا بأحد ليجمعها عنه، فيغذّي أحاديث الموظّفين، وعجب مدير الفندق الذي يبعث له كلّ يوم بالورد، وبالتفاتات مصحوبة ببطاقته!
لم تندم على إنفاقها ما تجاوز سقف بطاقتها المصرفية في شراء هدية له، ندمت على التحف التي اشترتها لبيت تدري الآن أنه لن يزوره.
كانت تخرج لتشتري بعض المأكولات، وتعود لتتناولها في الغرفة. خشية أن تأخذ شيئاً من البراد، أو تطلب شيئاً من الفندق، فتفاجأ عند المغادرة، بفاتورة تفوق المبلغ النقدي الذي في حوزتها. صحيح أن الأيام دوارة، لكن أن تدور في يوم واحد دورة كهذه، فهذا العجب!
أفرغت حقيبة يدها على السرير لتُعيد ترتيب محتوياتها، وتتأكد أن تذكرتها بينهما.
ما دُمت تملك تذكرة العودة، فأنت غني بحريتك، يكفي أن بإمكانك صفق الباب والعودة من حيث جئت. شعرت بالتعاطف مع المغتربين الذين، عند المصاب، يجدون أنفسهم لا يملكون ثمن عودتهم. لكن افقر منهم ن لا يملكون لعودتهم وجهة.
289
كلّ تذكرة سفر هي ورقة يانصيب، تشتريها ولا تدري ماذا باعك القدر. رقم الرحلة.. رقم البّوابة.. رقم مقعدك.. تاريخ سفرك.. ماهي إلّا أرقامٌ تلعب فيها المصادفة بأقدارك، يمكن لرحلة لم تحسب لها حساباً أن تُغير حياتك أو تودي بها، أن تفتح لك الأبواب أو توصدها، أن تعود منها غانماً او مفلساً، عاشقاً أو مُفارقاً. أما هي، فكانت تعود وهي كلّ هذا دفعة واحدة!
لقد اشترت بأغلى تذكرة كلّ هذا الخراب الباذخ.
في حقيبتها، كان أيضاً ثمّة بطاقات هاتفيّة بعضها فارغ، وبعضها ما زال صالحاً للاستعمال. لكن الكلمات، لا البطاقات، هي التي ماتت. وثمّة مفتاح ذلك الجناح الذي دخلته أميرة وغادرته فقيرة، وغطاء زجاجة النبيذ تلك، التي خرج من قمقمها الوحش الذي أتى على كلّ شيء. وثمة بطاقة الجزائريَّيْن اللذين عرضا عليها أن يدعواها إلى الغداء أو إلى العشاء، لكنّها لن تطلبهما. لا تريد أن تقتسم مع أحد انكسارات روحها، ولا رغبة لها في رؤية أحد. كادت تهمّ بتمزيقها. ثمّ، عن كسل، عادت ووضعتها في محفظتها.
***
ما كان يشعر بأنّه أخطأ في حقّها.
كيف تسنّى لها أن تخاطبه هكذا. في إهانته لماله إهانة متعمّدة له. حتّى الذين ينصبون عليه يغفر لهم. لكنّه لا يغفر لمن يباهي باستغنائه عنه.
290
من تكون هذه الفتاة الجبليّة، التي لا تعرف حتّى ((إيتيكيت)) الجلوس إلى الموائد الراقية، لتتطاول عليه؟
ربّما كان يحبّها. لكنّه، جولة بعد أخرى، سيرغمها على قطع مراحل في العبوديّة. مداً وجزراً سيؤدّبها.
تلك اللبؤة سيعود بها جرواً يتمسّح عند قدميه. لتمض حيث تشاء. هو أسعد الليلة من دونها، ذلك أنّ حبّها أصبح يؤذيه أكثر ممّا يسعده، لذا كلّما ازداد تعلقاً بها تمرّد عليها. وكلّما ازداد إعجاباً بها، اجتاحته رغبة في إهانتها.
هي تائهة الليلة في مدينة لا تعرف أحداً فيها. لو كانت حيواناً لأشفق عليها، كما يشفق على كلبه. لو كانت عدوّه، لوجد من الشهامة أن يهبّ لنجدتها. لكنّها حبيبته، وحبّه لها غداً أخطر عليه من أعدائه. لقد هددت كيانه وقلعة رجولته، مذ فازت بامتلاك سره. لكن لن يفوت فرصة بعد الآن ليذكرها بأنّه سيّدها.
***
صباحاً، قبل مغادرة الفندق، طلبت فاتورة إقامتها، وسّيارة أجرة.
ردّ الموظّف:
-إقامتك مدفوعة يا سيّدتي.
سألت مذهولة:
-مدفوعة ممّن؟
راح يدقّق في أوراقه ثمّ أجاب:
291
-عذراً لا أدري. يبدو أنّ ثمّة من اتّصل بالفندق ودفع ثمن الإقامة.
حتماً هو. من سواه يدري بوجودها؟ لكن كيف عرف اسم الفندق وعنوان إقامتها؟ لعلّه اتّصل بشركة التاكسي نفسها التي تعمل مع الفندق ليستفسر أين أوصلها.
أُسقط بيدها. ليس بإمكانها أن تفعل شيئاً. حتى لو أرادت دفع فاتورة الفندق مرّة ثانية لن يقبلوا ذلك منها. تماماً كما حدث قبل سنة، يوم دفع ثمن كل مقاعد القاعة، ووجدت نفسها مُكرهةً على الغناء له.
تراه قد ضحك كثيراً من عنوان إقامتها. يريد إعطاءها علماً بأنه يعلم كم تساوي بالضبط عندما يتخلى عنها، وأن ثلاث ليال من عمرها تساوي أقل من زجاجة نبيذه. لكن زجاجة نبيذه تلك جعلته أصغر من أن يقف أمامها كبيراً.
فليكن، كرامته المصرفيّة مصونة، وكذلك كرامته العاطفيّة. فهو رجل يقول ((أحبّك)) بجيبه أوّلاً ويقول ((أحتقرك)) بجيبه أيضاً.
فماذا أراد أن يقول لها بالتحديد؟
لا تدري.. لعلّه يستدرجها لمهاتفته كي تشكره مثلاً.
أقسمت إنّه لن يراها بعد اليوم ولن يسمع صوتها مهما حدث.
((أحبَّ من شئت فأنت مُفارقُة.))
الإمام علي بن أبي طالب
كانت على عجل أن تغادر فيينا.
وصلت إلى المطار قبل إقلاع الطائرة بثلاث ساعات، كي تستفيد من خدمات صالون الدرجة الأولى، وتنجو من ذلك الفندق ومن ((ليالي البؤس في فيينا)).
لم يقل لها أحد إنّ الأغاني تكذب.
ها هو ذا الحزن في توزيع أوركستراليّ يليق بفيينا.. فلماذا الدانوب ما عاد أزرق؟ لماذا تحوّلت زرقته إلى كلمات زرقاء علقت بروحها كالكدمات. قال إنّه يريد مراقصة قلبها، لا قدميها. كيف يراقص طائراً مذبوحاً بسكّينه؟!
كانت تحتسي قهوتها في زاوية مطلّة على مدرج الطائرات، تشغل نفسها بمتابعة حركة الإقلاع والهبوط، الموافقة تماماً لقلبها الذي عرف في هذه المدينة لحظات شاهقة من السعادة، كما الألم، عندما شهق قلبها. لم تُصدّق عينيها، وهي تراه يدخل من أقصى القاعة.
296
استفادت من كونه لم يرها. فانسحبت عجلى إلى الحمّام تجدّد هيئتها. وضعت شيئاً من الحمرة، وزادت الكحل كي تخفي آثار دموعها فيشمت بها.
ما الذي جاء به؟ حتماً هو يعرف أنّها ستأخذ هذه الرحلة، فهي الرحلة الوحيدة إلى بيروت. ربما تعمّد أن يأخذ معها الطائرة نفسها. قرّرت في جميع الحالات أن تتجاهل وجوده. شعرت كأنّها تقيم بين السهم والهدف، وأنّ ذبذباته تخترقها. لعلّه ينظر إليها.. ازداد خفقان قلبها.
عادت لتجلس، مطمئنّة إلى هيئتها، دون أن تلقي نظرة حولها. ثم خطر ببالها أن تطلب نجلاء. راحت تتبادل معها حديثاً تعمّدت أن يكون مبهجاً.
صاحت نجلاء على الطرف الآخر للخطّ:
-لا تقولي إنّك تهاتفينني لتخبريني أنّك لن تأتي اليوم!
-بل أنا قادمة. إنّي أكلّمك من المطار.
-صحيح. مبيّن عليك مبسوطة.
-انبسطت كتير.. يا الله شو حلوي فيينا.. المرّة الجاية بدي آخذك معي!
قالت جملتها الأخيرة بنبرة أعلى، كما لو أنّ ثمّة صعوبة في الاتّصال. في الواقع أرادت أن تتناهى إلى سماعه هذه الجملة تحديداً. طبعاً هي لن تعود إلى فيينا، كل ما تريده أن تنجو منها. تودّ أن يتوهّم أنها لم تذرف دمعة مذ غادرته، وأنها قضت وقتاً ممتعاً.
297
راحت تتظاهر بتصفّح إحدى المجلّات كما لو أنّها لا تدري بوجوده، حين تقدّم منها النادل حاملاً صحناً عليه ورقة مثنيّة.
أخذتها منه مذهولة. فتحتها. قرأت ((شكراً على لعبة الشطرنج)). ثنت الورقة، وراحت تبحث عنه بعينيها كأنّها فوجئت بوجوده، وحين لمحته على بعد ثلاث طاولات منها، لم تتحرّك من مكانها، ولا بدا منها أيّ ردّ فعل.
حتماً فوجئ بتجاهلها له. قصدها، قال وهو يقف على مقربة منها:
-أتأذنين لي بأخذ فنجان قهوة معك؟
تمتمت وقد وضعت المجّلة جانباً:
-إن شئت.
ها هو ذا. قمعت قلبها الذي راح يخفق. قاومت رغبتها في البكاء. واجهت جلسته المتجبّرة، بحزنها المتعالي.
توقّعت أن يكون جاء ليعتذر عن كلّ ما ألحق بها من أذى. لكنّه قال كأنّه يواصل حديثاً سابقاً:
-للمناسبة، لا تحتاج لعبة الشطرنج دائماً إلى لاعبين. يمكن للاّعب الحاذق أن يلعب ضدّ نفسه بتغيير مكانه.
ردّت بمكر:
-يحدث هذا فقط مع لاعب أكبر غروراً من أن يتقبّل الخسارة أمام شخص آخر غير نفسه!
-جميل. ما توقّعتك تفهمين في هذه اللعبة.
-مهما كانت اللعبة، فالجولة انتهت في هذه المدينة.
298
ابتسم بمخالبه، ردّ بسخرية كاذبة:
-أليس طريفاً أنّ جولة بدأناها في مطار شارل ديغول تنتهي في مطار فيينا!؟
أجابته وهي تخفي عنه نزفها:
-الأطراف أنّني في الجولة الأولى لم أتعرّف إليك، أمّا في الجولة الأخيرة فأنت الذي لن تتعرّف إليّ.. تلك الحمقاء التي أحّبتك ما عادت أنا!
ردّ بنبرة واثقة:
-سأظلّ أتعرّف إليك ما دام الأسود لونك.. أعني لوننا.
-أنا امرأة من أنغام وأنت رجل من أرقام.. وليس بإمكان لون أن يجمعنا.
ضحك الإله.
لم يصدّق كلامها. هو يعرف النساء، ويعرف الحبّ أكثر منها، ويدري أنّها ستنهزم وتعود إليه يوماً، لتقول عكس ما تقوله الآن. لذا لن يناقشها، سيتظاهر بأنّه يوافقها، وأنّهما لا بد أن يفترقا. إنّها نقلة الشطرنج القاتلة لأيّ امرأة، يكفي أن تجلس قبالتها وتدعها تلعب ضدّ نفسها، وعندما تخسر كلّ شيء، لا تمنحها فرصة ثانية. قف وأعلن أنّ الطاولة رُفعت، واللعبة انتهت، واستمتع بالتفرّج عليها وهي تعود لتتمسّح بقدميك كقطة، عساها تستعيدك!
جاءت المضيفة تطلب من المسافرين إلى بيروت الالتحاق بالطائرة.
ظنّت وهي تراه يقف أنّه يسافر على الرحلة نفسها، وأنّهما سيواصلان الحديث في الطائرة، لكنّه قال مودّعاً:
299
-أتمنّى لك سفراً سعيداً.
لم يُقبّلها، لم يصافحها، لم يُطل حتّى النظر إليها وهو يضيف:
-إلى اللقاء.
راح قلبها يزداد خفقاناً، وهي ترى أنها لم تقل شيئاً، وقد لا تراه أبداً. لم يترك لها وقتاً لتسدّد له سوى جملة، من قهرها قالت عكس ما تمنّى قلبها أن يقول:
-لا أظنّنا سنلتقي بعد اليوم، إلّا إذا استطعتَ أن تشتري لك مصادفة أخرى في مطار!
ردّ بما كان يدري أنّه الضربة القاضية:
-سيكون ذلك صعباً، لأنّنا لن نسلك البّوابة نفسها بعد اليوم.. سأتسلّم طائرتي الخاصّة نهاية هذا الشهر!
تباً له.. رجل يقتني الطائرات، ما حاجته لشراء المصادفات.
بدا لها لأوّل مرّة ذا نرجسيّة طاغية، مزهواً كطاووس، ثملاً بثرائه، لعلّها الصفقة التي وقّعها في فيينا، أسكرته: ((وسكر الغنى أشدّ من سكر الخمر)). لكأنّها جاءت إلى فيينا لتراه في كلّ حالات سكره. هي نفسها داخت. لا تعرف معنى أن يكون أحد ثرياً إلى هذا الحّد! يا إلهي.. أيمكن لشخص أن يمتلك طائره له وحده، جاثمة في انتظاره بكّل طاقمها؟
لم تعلّق على ما أراد تذكيرها به: تلك المسافة المصرفيّة التي تباعد بينهما، والتي ألغتها وهي تترك ماله أرضاً وتمضي، فحوّلتها بإهانتها إلى مجرد أصفار.
انصرفت دون أن تلقي نظرة عليه. بالعنفوان نفسه الذي غادرت به جناحه.
300
كانت تهّم بمغادرة القاعة عندما وجدت نفسها عند الباب، أما ذلك الجزائري الذي التقته برفقة الرجل الآخر في الفندق. نسَيت اسمه الكامل، لكنّها تذكّرت تماماً ملامحه وطلّته الفارغة، لعلّ اسمه عزّ الدين.
غمرته سعادة عارمة وهو يراها، أمّا هي فسعدت لأنه منحها فرصة البقاء، في حّيز نظر رجل وحده يعنيها.
قال بالفرنسّية:
-أما قلت لكِ لا تعطيني رقم هاتفك.. أثق بأنّنا سنلتقي! لكن ما توقّعت أن نلتقي هنا. إلى أين أنت مسافرة؟
-إلى بيروت. وأنت؟
-إلى بغداد؟
-وهل ثمّة من يسافر الآن إلى بغداد والبلاد غارقة في الحرب!
-نحن نذهب حيث تكون الحروب. لا نختار وجهتنا. الحرب هي التي تختارنا!
-وماذا أنت فاعل هناك؟
-علينا أن نؤمّن حياة النازحين نحو الدول المجاورة.
كان عليها أن تلحق بالطائرة، بينما أمامه ساعتان في انتظار طائرته. وجدت نفسها على الطريقة الجزائريّة تقبّل خدّيه مودّعة، فقد شعرت بأنّ ثمّة احتمالاً ألّا تراه أبداً. ثمّ هي لم تنسَ تلك الجملة التي قالها لها أوّل مرّة محّملة بكلّ العنفوان الجزائريّ في الثناء على امرأة (((يعطيك الصحة يا الفحلة متاعنا))، فليكن، إنّه مدحها بالفحولة، أي إنّها ((أخت رجال)) كما يقولون في سوريا. ولا بأس أن تكون حاربت بأنوثة كّل النساء، لتكسب معاركها بفحولة كّل الرجال.
301
أخرجت ورقة كتبت له عليها رقم هاتفها، وقالت مازحة وهي تمدّه بها:
-القدر منحك حقّ امتلاك رقمي.
أجاب:
-سأجعل منها ورقة يا نصيب رابحة.
ردّت بلهجة جزائرية وهي تسرع لتلتحق بالطائرة:
-عندك على روحك.
ركبت الطائرة وهي مدمّرة. لفرط ألمها، لم يشغل ذلك الجزائري أيّ حيّز في تفكيرها. لكنّها فكرت أنّ الآخر وجد الآن دليلاَ ملموساَ على علاقة تجمعها بهذا الرجل . وهو الآن يعزّي نفسه بأنّها ما كانت اصلاً تستحقّ حبّه. سيسعى إلى تشويهها في قلبه، ليُسرّع شفاءَه منها، ويستعيد في عين نفسه، ما سقط منه في عينيها. بل ربما اختلق مبرّراً ليجالس ذلك الرجل في انتظار طائرته، عساه يعرف من يكون. فكلّ آلهة نصفها تحرٍّ. إنّها تحتاج إلى أن تتجّسس على ((مخلوقاتها)).
مذ أوّل موعد أخلفته معه في مطار، إلى آخر لقاء به في مطار، ما انفكّ يتصرّف عكس توقّعاتها. لقد حضر إذًا خصًيصاً لتحطيمها، كما يحّطم الأشجار التي يدّعى حبّها. هذا الإله لا ينازل الصغير يريدها كبيرة لا من أجلها، بل لزهو إذلال قامتها.ّذلك أنّه لا ينازل الصغار. هو يضخّمهم حتّى حين يتخلّى عنهم، يشعرون بأنّهم ما كانوا شيئًا قبله. ولن يكونوا شيئًا من دونه.
كان يكفي أن يعتذر. لكنّ الآلهة لا تعتذر، هي دائمًا على حقّ.
302
أقصى ما يمكن أن يقوم به هو أن يجعل المخلوقات تعتذر عنه كما حين قال لها ((سأجعل الأشجار تعتذر لك)).
من أين له هذه القدرة التدميريّة؟ لكأنّه يحمي نفسه من الحبّ بأذيّة من يحبّ.
على مدى عامين، كانت تحيا بين الناس دون أن تلمس قدماها الأرض. كانت تقيم فوق سحابة بيضاء. لم تكن تمشي، كانت تحلّق، فلقد أنبت لها حبّه جناحين.
وها هي الأن في الطائرة، لاتعود من فيينا بل من سحابتها تلك، بقلب تكسّرت أجنحته. فالسّيد هاشم تركها تسقط من هذا العّلو لتتهشّم!
***
استفاقت ولا أحد.
رجل عبرها كقطار سريع، دهس أحلامها وواصل طريقه بسرعة الطائرات، فالوقت هو أغلى ما يملك. لا وقت لديه ليرى ما خلّفه مروره العاصف بحياتها من دمار. أشجار الأحلام المقتلعة، أعمدة الكهرباء التي قطع الإعصار أنوارًا أضاءت حياتها، سقف قلبها المتطاير قرميده، ونومها في عراء الذكريات.
قضت أيامًا مذهولة ممّا حلّ بها. ترى من دون أن تنظر، تسمع من دون أن تصغى. تسافر من دون أن تغادر. تعيش بين الناس من دون أن يتنبّه أحد أنها، في الحقيقة، نزيلة العناية الفائقة، وأنّ نسخة
303
مزوّرة منها هي التي تعيش بينهم. نسخة يسهل اكتشافها، فلا شيء ممّا يسعد الناس يسعدها، ولا خبر ممّا يحدث في العالم يعنيها، وكلّ حديث مهما كان موضوعه يبكيها. لأنّ كلّ المواضيع حتمًا ستفضي إلى ذلك الرجل الذي دمّرها ومضى.
دهمها إحساس بالفقر لافتقارها إلى قناع. كان عليها أن تسرق منه أحد أقنعته. الجميع حولها يملك أكثر من وجه، و هي تواجه الحياة سافرة. إنها تطالب بحقها في امتلاك قناع. القناع كان سيوفّر عليها كثيراً من الخسارات، والنضالات، والآلام، ويعفيها من ضريبة الحياء، و يخفي عن الآخرين ما ترك البكاء من أثر في وجهها.
مرّ وقت قبل أن تعِيَ أن صوته لن يأتي، وأن بإمكانها بعد الآن أن تشغل الهاتف من دون خوفها الدائم من نوبات غيرته. ومن شكوكه، وتجسّسه الصامت عليها. شُفيت من الرهاب الذي كان يلازمها، كلّما اضطرّت إلى تبرير سفرها، أو قبول دعوة، أو مجالسة ملحّن أو شاعر ، أو محادثة أحد ووجد الهاتف مشغولاً، فغضب وانقطع عنها لأسابيع.
هي الآن حرّة، لكن كلّما تحرّرت منه، سعدت و حزنت في آن واحد. وكلّما شُفيت من عبوديتها، عانت من وعكة حرّيتها. إنها تتصرّف بيُتم فتاة عليها بعد الآن أن تقرّر وحدها قدرها.
لقد غدت يتيمة مرّتين. ليس الحب وحده مافقدت، بل تلك القوّة الأبويّة الرادعة التي كانت تطّوقها بالأسئلة، وتحاصرها بالغيرة. اليٌتم العاطفي هو ألمك السّري أمام كل خيار، لأنك في كلّ ما تفعلينه لا تقدمين حساباً لأحد سوى نفسك، كأنّه لا أحد يعنيه أمرك.
***
304
مأساة الحب الكبير ليست في موته صغيراّ بل في كونه بعد رحيله يتركنا صغاراً.
هو ليس حزيناً من أجلها ،بل لأنه جعلها كبيرة، وتركته صغيراً.
مذ رآها تحادث بشوقٍ ذلك الرجل، الذي سبق أن التقته في الفندق، وذهبت حدّ تقبيل خدّه ، دخلت الدودة إلى قلب الثمرة، و ما عاد بإمكانه إنقاذ تفاحة الحبّ.
أكثر من وسواس الغيرة، سكنه إحساس لم يحدث أن خبره في حياته: الشعور بالإهانة.
واجه الموقف بذلك التغاضي الأنيق الذي يليق بمقامه. ظلّ يسترق النظر من بعيد، لرجل كان أثناء ذلك منهمكاً في مطالعة ملفاته، رجل أربعيني رصين، أنيق دون جهد واضح. لم يغادر مقعده إلاّ بعد مدّة ليُحضر صحناً من المقبّلات الموجودة في متناول المسافرين ، ويعود لأوراقه. توقّع له أكثر من اختصاص، لكنه لم يكتشف مجاله، إلاّ عندما لمح في يده جوازاً دبلوماسيًّا ، و هو يهمّ بمغادرة القاعة. لربّما عرف في جلسة بصالون المطار، ما يكفي ليتسرّب الحزن عميقاً إلى قلبه.
يا للحبّ .. موجِعُ ومَوجوع أبداً.
يذكر أن المنظّمة العالمية للصحة أصدرت ذات عيد للحبّ، بياناً تحذيرياًّ لعشّاق العالم، قصد تنبيههم إلى العواقب المضرّة بالصّحة، والأمراض الفتّاكة التي قد يتسبّب الحبّ بها، للسذّج من أتباعه، من أمراض قلب، وارتفاع في الضغط، وجلطات، وإصابة بداء السكّري ، وأعراض اكتئاب، وفقدان للشهّية، وإذا بالعالم يكتشف أنّ
305
أسلحة الدمار الشامل، هي في مكان آخر غير العراق، وأنّ كلّ واحد منّا يحمل أسلحة دماره في قلبه !
لم يأخذ التحذيرات مأخذ الجدّ، إلّا حين راح قبل أيّام يُطالع نتائج فحوصه الطبِّيَّة. وإذا بالفتاة التي وضعها خارج حياته ما زالت تُقيم في كريات دمه. لكأنّ حبّها غادره ليتمكّن من العودة تحت تسمية أخرى.
فمنذ أعلن العربُ الحبَّ سلطاناً، غذا الحبّ حاكماً عربيًّا بأسماء لا تُحصى. تسعون اسماً في اللغة العربية تمجّد سلطته على العشّاق، حسب تدرّج صاعقته بين النظرة الأولى. والنفَس الأخير. لكنّه تجاوز سنّ ((الوله)) و ((الولع)) و ((الشغف)) و ((الهيام)) و ((الغرام))و((العشق))، وكلّ المسمّيات التي تعني أنّك وقعت في قبضة حبّ قدريّ لا فكاك منه.
هو لا يحتاج إلاّ لعبارة فرنسيّة تقول )) Tu me manques (( وعلى بساطتها لم تسعفه اللغة العربيّة باختراعها. هل قال عاشق عربي يوماً لامرأة إنّها تنقصه ؟
لا يدري أكان يحّبها. ما يدريه أنّها (( تنقصه )) كلّ يوم أكثر فأكثر، وهذا المساء أيضاً لا شيء منه ينتظرها. أضحى غيابها طويلاً كمكيدة، عميقاً صمتها كطعنة. لكنه يرفض أن يستلّ خنجرها. يحتفظ به مغروساً في مكانٍ ما من جسده، يتفقّد بين الحين والآخر موضعه، ذلك أنّه لم يحدث قبلها أن طعنته امرأة في كبريائه.
***
306
حاولت أن تُخفي عن الجميع دمارها الداخلي. كان يلزمها إعادة إعمار عاطفيّ، كأنّها مدينة مرّ بها هولاكو، فأهلك كلّ ما كان قائماً فيها. عزاؤها أنّها استطاعت أن تنقذ من الدمار كرامتها، وذلك الشيء الذي لم تمنحه إيّاه.
استيقظت من أحلام منتهية الصلاحّية، كأنّ شيئاً ممّا حدث لم يحدث. لقد عاشت سنتين مأخوذة بألاعيب ساحر ماكر. كأولئك السحرة الذين يخرجون من قبّعاتهم حَماماً .. وأوراقاً نقديّة. لكن لا الحمام يمكن الإمساك به، ولا الأوراق النقديّة صالحة للإنفاق.
لقد ترك لها ثروة الذكريات، بينما كانت تتوقّع أن يهدي لها مشاريع حياة.
أجّلت طويلاً عودتها إلى بيت أثّثته من أجله ولن يزوره.
تحتاج إلى أن تستعيد قواها قبل مواجهة مرتجعات الحب.
كلّ ما اقتنته عن عشق ، يوجعها اليوم بتنكيل النهايات. حرمت نفسها أشياء كثيرة، لتهدي إلى نفسها الألم الباذخ. اشترت ألمها بالتقسيط المريح، بعملة الكرامة. اعتادت أن تدفع بالعملة الصعبة.
تجوّلت بين حطام أحلامها. كم من الأشياء كسّر ذاك الرجل دون علمه!
أشياء كانت جامحة الأحلام، تهشّمت حتّى من دون أن يلمسها بنظرة. وأخرى ترتدي حداد رجل لا يدري أصلاً بوجودها. أشياء تبكي لأنه لن يراها، وأخرى تبكي رجلاً لا يدري أنها تنتظره. أشياء تخدع انتظارها له بادّعاء نسيانه، لكنها لا تنسى. تواصل السؤال عنه أوّل ما يُفتح الباب، فهي مختارة على ذوقه هو، ومن أجل إبهاره وحده.
307
أشياء لها أن تحزن، لها أن تنتظر، لها أن تبكي، لها أن تتهشّم..
مهما كان مصيرها، يظلّ هو سيّدها، فقد امتلكها بسطوة غيابه.
لأشهرٍ، انتابها حزن الجياد الجريحة.
لم تفهم كيف أنّ رجلاً أهدى لها كرم اللحظات الباهظة. وبخل عليها بالكرامة. وهبها في لحظات زمناً أزليًّا .. ثم كسر ببضع كلمات ما اعتقدته أبديًّا.
كما الطغاة، هو يبالغ إذا أحبّ، يبالغ إذا وهب، ويبالغ إذا غضب.
مثلهم، لا يغفر لمن يقدّم له استقالته. يرفضها، لحقِّ إقالته لاحقاً.
لعلّه تمنّى استعادتها، ليكون له زهو التخلّي عنها عند أوّل فرصة. من هو مثله لا تصفق امرأة الباب، وتتركه خلفها.
أَقدَرُها أن تلجأ إلى طاغية كلما هربت من آخر. كالشعوب التي تستبدل بالطغاة الغزاة، كلّ من استنجدت به كان ينوي احتلالها.
وما هربت من إرهاب، إلاّ وقعت في قبضة إرهاب مقنّع آخر.
تصدّت لإرهاب القتلة، ولإرهاب الدولة ، ولإرهاب العائلة. وها هي أمام الاستبداد العاطفي، غير مصدّقة أنّ رجلاً لجأت إليه أملاً في سندٍ أبدي، ليس سوى إرهابيّ، استحوذ على صوتها بسلطة ماله.
بدأ بشرائه ليستمتع به وحده، وانتهى بمنعها من الغناء إلاحين يأذن لها. بملء إرادتها تركته يستأثر بها. ليُتمها، كانت سطوته تمنحها ذلك الشعور الذي تنهزم أمامه النساء: الإحساس بالحماية. لكنّه لم يكن يحمي صوتها، بل مهرة ليس من حقّها أن تصهل خارج حظيرته.
308
لأسابيع، ردّدت هذا الكلام على نفسها، لكن، حال انتهائها من مرافعتها ، كان قلبها يأخذ الكلمة عنوة، ويعترف بأنّه ما زال يحبّه، كما (( يحبّ القطّ خانقه))، وكما تحبّ الشعوب جلّاديها. حتّى في انقطاعه عنها كان جلاّداً، في صمته عنف الصمت المخطط له.
إنها في النهاية كالشعوب العربية، حتّى وهي تطمح للتحرّر، تحنّ لجلاّدها . مثلها، تتآمر على نفسها، تخلق أصنامها ، تقبّل يد خانقها، تغفر لقاتلها. تواصل تلميع التماثيل بعد سقوطها، تغسلها بالدموع من دم جرائمها.
تدريجاً، ماعاد لها من رغبة في البحث عن تفسير لصمته. لا أحد يبحث عن مبرّر لصمت الموتى. الموتى يموتون ولهذا يصمتون. وهو في كلّ يوم لا يهاتفها فيه يموت أكثر. مع كلّ نشرة أخبار تتوهّم أنه أحد الذين يسقطون في العراق أفواجاً ضحايا الموت العبثي. كلّما فكّرت في موت الآخرين صغر موته، وكلّما ضجّت الأنباء بأنين الأبرياء احترقت غطرسة صمته.
مرّت أشهر وهي تكابر، تنتظر أن يهزمه الشوق ويطلبها. في انتظار دقّة هاتف منه نسيت أن تعيش. ثم، بدأت تراه يموت حقاً، وكذلك رقم هاتفه.
الأرقام تموت بموت الإحساس بأصحابها. تموت عندما تبدأ أرقام ذلك الرقم الهاتفي الذي كنّا نحفظه وننسى رقمنا، بالتساقط الواحد تلو الآخر من شجرة الذاكرة، لتترك مكاناً لأرقام خضراء أخرى معلنة بداية ربيع حبّ جديد. لكنّ قلبها كان يأبى أن يغادر الشتاء، ويتشبّث بأوراق الماضي الصفراء، كان مازوشيًّا!
309
إذاً، ستشرع بإعلان الحرب على كل ما يتشبّث به قلبها من أصفاد، بدءاً بجهاز الهاتف الذي أهداه إليها. لا تريد هاتفاً ثميناً لا يدقّ، بل هاتفاً بسيطاً يخفق، الأشياء الفاخرة تنكّل دائماً بأصحابها، ما نفع موسيقى الدانوب الأزرق التي غدت تؤذيها حدّ البكاء؟ تريد سماع رنّة عاديّة، قلبها، لا الهاتف، من يعزف سمفونية لسماعها. عليها أن تتخلّص من كلّ شيء كان جميلاً، وكانت ذكراه الأغلى على قلبها.
في الحبّ، كلّ هبة مكيدة، وكلّ شهقة فرح، هي مشروع تنهيدة، وكلّ رقم هاتفي يحمل من المكر بعدد أرقامه.
تلك الأرقام التي تأبى يدك أن تطلبها، وترفض ذاكرتك أن تنساها.
****
عاد الشتاء من دونه، وقبله مرّ فصلان لم تدرِ بهما. بلغت معه ذلك الحزن الأكبر الذي ليس بعده خسارة أو فقدان.
كانت في حداد على ماتدري الآن أنّه ما عاد يمكن حدوثه مجدّداً.
الأحلام التي تبقى أحلاماً لا تؤلمنا، نحن لا نحزن على شيء تمنّيناه ولم يحدث، الألم العميق هو على ما حدث مرة واحدة، وما كنّا ندري أنّه لن يتكرّر.
الأكثر وجعاً، ليس ما لم يكن يوماً لنا، بل ما امتلكناه برهة من الزمن، وسيظلّ ينقصنا إلى الأبد.
إنه الحنين لما تركناه خلفنا ولن نعود إليه. أماكن جميلة تتمنّى لو أنك لم ترها حتّى لا تحزن. لحظات باهرة، تندم أنك عشتها كي لا
310
تتذكّر. رجال مدهشون، تودّ لو أنك لم تلتقِهم، كي لا تبكيهم ما بقي من عمر، كما لو أنهم رحلوا.
حدث قبله أن أبكاها رجل، لكن وحده كان وحده كان بالبهجة يُهّيئها لكلّ تلك الدموع.
رجلٌ أشعل من أجلها كلّ المفرقعات، وأطلق كلّ الأسهم الناريّة، ثم أطفأ الأنوار في عزّ مباهجها الضوئيّة، وحوّل نهارها ليلاً، بعد أن كان ليلها به نهاراً.
لأشهرٍ، فقدت مباهجها وحماستها لإنجاز ألبومها الجديد، متذرّعةً بالظروف السياسيّة. الحقيقة، لا شيء سواه كان يعنيها. كانت تكرهه بقدر ما تحبّه، وتتمرّد عليه وتتمنّاه، وتحنّ إليه سرّاً، وعلناً تتحدّاه. وتصمد أياماً، ثمّ تنهار أحياناً باكية. أمام سؤال لا تملك يه جواباً: (( كيف حدث كلّ هذا؟)).
تتذكّر أنّه قال لها مرّة، وهما يتنزّهان في غابة بولونيا بعد قطيعة : (( الفراق من المواد العضويّة التي تتغذّى بها شجرة الحبّ )).
أكان عليها أن تستنتج أنّ رجلاً يصادق الأشجار هو جاهز لأن يتخلّى عن امرأة، لتنمو في غيابها تلك الشجرة؟ أيكون أبكاها ليسقي بدموعها شجرة الحبّ؟
بعد أشهر من البكاء، اكتشفت أنها وحدها كانت تسقي بدموعها الغبيّة تلك الشجرة. وأنّها خسرت غابة على أمل إنقاذ شجرة .. شجرة ربّما لم تنبت إلاّ في قلبها.
311
في تلك السهرة التي خرج فيها الجنّي من عنق الزجاجة، قال لها (( احزني قليلاً كي نتساوى في العمر )). ها قد غدت في غيابه أكبر منه سناًّ. لقد جعلها في أشهر تبلغ سنّ الفاجعة. بينما تتوقّع أن يكون عاد إلى شبابه مع سواها.
وقال، وموسيقى تنبعث إلى شرفته، من الحدائق الأرستقراطية المزاج: (( حتّى أثناء قطيعتنا لم أتوقف عن مراقصتك )). مدّ يده نحوها وواصل: (( تعالي، ثمّة أشياء من السعادة أو من الحزن بحيث لا أعرف كيف أقولها لك إلّا رقصاً )). ثمّ انتهت الرقصة من دون أن تعرف في أيّ الحالتين كان، فالأضداد لديه تتلامس.
يقول تعريف للموسيقى إنّها (( ملجأ النفوس المريضة بالسعادة )) فهل كان سعيداً أم مريضاً ؟ مايؤلمها أنها، في الماضي كما اليوم ، لا تعرف شيئاً عن نشرته النفسية. هل تألّم ؟ هل بكى ؟ هل ارتدى حدادها أم وضع قناعه ؟ هل شُفي منها أم مازال مريضاً بها ؟ أم عثر على من يمكن أن يبدأ معها جولة شطرنج أو يواصل أخرى كانت تنتظره في بلاد ما ؟
***
ثمّة نساء يلامسن لواعج الروح، يعبرن حياتك كجملة موسيقيّة جميلة ، يظلّ القلب يدندنها لسنوات بعد فراقهن. وأخريات بدون قفلة، لا تدري وهنّ يغادرن، هل كان من تتمّة لتلك السوناتا. وهناك من لا تملك منهن إلاّ ومضة ذكرى، كنقرة وحيدة على مفتاح البيانو
312
يتركنك معلّقاً لنظرة. وهناك نساء نشاز، لا تستطيع دوزنتهن، لا يفارقنك إلا وقد أفسدن تناغم الكائنات من حولك.
ثمّ .. ثمّة امرأة ، بسيطة كناي، قريبة ككمنجة، أنيقة في سوادها كبيانو، حميميّة كعود. هي كلّ الآلات الموسيقيّة في امرأة. إنها أوركسترا فيلارمونية للرغبة، وبرغم ذلك لن يتسنىّ لك العزف على أيّ آلة فيها. تلك هي لحنك المستحيل.
هذا ما أدركه متأخراً، وهو يحاول أن يقنع نفسه بأنّ أجمل قصص الحب هي تلك المعلّقة، وأجمل المتع تلك الناقصة، وأنّ الحياة اختارت له معها أجمل النهايات.
أتكون قصّتهما انتهت هنا ؟
عندما يفترق اثنان لا يكون آخر شجار بينهما هو سبب الفراق، الحقيقة يكتشفانها لاحقاً بين الحطام، فالزلزال لا يدمّر إلّا القلوب المتصدّعة الجدران والآيلة للانهيار.
راح يبحث بين الشقوق عن سببٍ للنهاية. لعلّه الضوء. فالحقيقة في عُريها الكاشف لا تليق بولع العشّاق، لكنّ الحبّ هو بوحٌ مستمر، تورّطُ في تفاصيل الآخر، وشهوةُ لتملّكه، يجعل منك رجل تحرّ، ومخبراً في آن واحد! فعندما تعرف كلّ شيء عن الآخر ، ويعرف عنك أكثر مما كان يجب أن يعرف، لا بدّ أن تفترقا. الحبّ وهمُ، لا يصمد أمام الأضواء الكاشفة. لقد عرفت هذه الفتاة سرّه الأبعد عمقاً، وهو لا يستطيع أن ينسى أنها استمتعت وهي تراه للحظات عارياً من هالته.
أيقظت فيه قسوة لا عهد له بها. لعلّها أمراض الرجولة. في لحظة ضعف يكشف رجل لامرأة سرّه، ثم يشرع لاحقاً في تأنيبها لينسيها ما باح به، يتمادى في إذلالها ليشكّكها في ماسمعته، في صدّها، في
313
هجرها، لتبحث عن الأسباب خارج السّبب الحقيقي. لا يغفر الرجل لامرأة رأته في لحظة ضعفه.
كان يكفي أن تبكي ليطمئنّ أنّ كرامته مصونة. أن تعتذر، أن تتضرّع، لتتأكّد له سطوته عليها. ما لا يغفره لها حقاً ، أنها غادرت حياته دون أن يرى لها دمعة. من تكون هذه التي لا تبكي ولا تعتذر؟! صفتان حكرٌ عليه وحده، هو الذي أبكى الرجال وهو يرفعهم إلى قامته، ثمّ يتركهم يسقطون من ذلك العلوّ الشاهق، كي يذكّرهم بسلطة المسافة. عليها أن تتذكّر بعد الآن أنّ المسافة بينه وبينها ليست بين صفَّيْن في طائرة، بل بين الطائرة ..والأرض.
في الواقع، هو خاسر سيّئ، يحجم عن دخول معركة لا يضمن كسبها. هو لم يشعر يوماً معها بالامان، لأنّه لم يمتلكها حقاً، شيء منها ظلّ يفلت من قبضته، لذا يفضّل أن يخسرها بملء إرادته، قبل أن تكون من يُخبره بخسارته.
كثيراً ما قالت له مازحةً إنه يعمل عاشقاً أحياناً، وطاغية بدوام كامل. فليكن، لقد تركها أرضاً محروقة، من يأخذها منه فسيأخذها أنثى بلا قلب، استناداً إلى قول أحدهم (( من أراد العراق فسيأخذه أرضاً بلا شعب )). إنّها، بعده، بلاد خراب ، لا أحد يجازف بحكمها، وأيّاً كان من سيليه، فستعيش مسكونة بالحنين إلى جلّادها، فقد كان هو عصرها الذهبي، دون منازع.
***
314
لربّما كانت تحتاج إلى مسافة لتراه. ذات يوم، تجلّى لها بوضوح حيث لم تتوقّع.
عثرت على حقيقته، يوم لبّت مع والدتها دعوة فراس إلى حضور سهرة رمضانيّة، تقدّمها فرقة المولويّة الصوفيّة. راحت تتابع تلك الابتهالات، مأخوذة بدوران الدراويش على أذكار فرقة تضمّ عدداً من المنشدين، وضاربي الدّف وعازفي الناي.
في رقصتهم، تتجلّى محنة المتصوّف الذي، كما الناي، اقتلع نفسه ممّا هو دنيويّ، وأفرغ جسده ممّا هو مادّى، عبر التقشّف والزهد اللذين يرمز إليهما حزامه العريض، كي يخفّف من حمولة الدنيا ويعدّ نفسه للتحليق عالياً، كما يفعل النغم، منجذباً في دورانه نحو الله.
ذلك الرجل أيضاً كان يدور، لكن عن غرور، مُثقَلاً بمكاسبه ، ثملاً بمباهجه، صانعاً من الثراء حزاماً يباهي به. لذا، كلّما حاول التحليق خانه جناحاه.
في رقصة المتصوّفة، يُمنع أن تلامس يدا الراقص ثوبه، هو يضمّهما فارغتين إلى صدره. وفي رقصة الجبابرة، يغدو الجسد أذرع ((مروحيّة)) تحاول عن جشع الإمساك بكل شيء. فالجبّار يرقص رقصة البهلوان ليلفت النظر إليه، مأخوذاً بنفسه، منتشياً بسلطته. لذا يُحطمّ في دورانه كلّ ما يصادفه، ويعجب أن ينتهي به الأمر دوماً راقصاً وسط الحطام.
أثناء رقصه زهواً، حاول تحطيمها. ما كان يدري أنها ابنة الناي والدّفوف، تملك خفّة الكائنات التي تولد زاهدة، وتُبعث كل مرة من
315
هشاشتها. ما كانا من العائلة الفيلارمونية نفسها. يريدها بيانو و هي لا تستطيع أن تكون إلّا مزماراً ودفَّا. ألهذا افترقا؟
لا يملك الدفّ إلّا جلده، يُعرّض للنار ليقوى صوته. وكذلك الناي، يُنتزع من القصب المحيط بالمياه، لذا أبواه الماء والتربة. ثم تعمّده النار، يحتاج إلى أن يفرغ ليعبره الهواء عبر التجاويف . فلا لحن ينطلق من قصبٍ ممتلىء بنفسه.
مثلهما هي، تحمل في كينونتها العناصر الأربعة للطبيعة. هي التراب والماء، والنار والهواء، فكيف غرّه منها بساطتها ، واعتقد أنه يسهل الانتصار عليها؟
أبكتها رقصة المتصوّفة في الدوران المتسارع الأخير لمؤدّيها. لكأنّها تقمّصت أرواح أولاد سيدي سليمان الذين كانوا، في طقوس احتفائيّة، يؤدون رقصات صوفيّة حدّ انخراطهم في نوبة بكاء رهيبة، ودخولهم في حالة انخطاف روحيّ يجعل من يراهم يعجب ألا يكونوا ارتفعوا عن سطح الأرض عدّة سنتمترات. فما كانوا يقفون على أقدامهم، بل يحلّقون.
كانوا يفرطون في الوجع حتّى يغدو الوجع انتشاءً، ويستمتعون برقصهم حدّ البكاء. ووحده الله في عليائه كان يدري ماذا كانت تقول له، في رقصها، تلك الأقدام المنتحبة.
(( الموسيقى ألغت احتمال أن تكون الحياة غلطة . ))
نيتشه
ذات صباح، رنّ الهاتف. قال صوت رجالي:
- واشك يا لالّا .. ما تسأليش علينا؟
إنها الجزائر تسأل (( كيف أنت مولاتي؟ ألا سألت عنّا ؟ )) .
لم تتعرّف إلى الصوت، لكنّها تعرف تلك اللهجة الغالية على القلب، ففي الجزائر يحدث أن تُنادى الحرائر ((لالّا ))، عن حنينٍ لزمن جميل ولّى.
ردّت:
- أهلاً.
قال الرجل على الطرف الآخر:
- أنا عزّ الدين .. هل تذكّرتني؟
كان يتحدث إليها من رقم سوري. قالت تحت وقع المفاجأة:
- طبعاً أذكرك .. لكن ما توقّعت وجودك في سوريا، طمّني عنك.
- -إني هنا في مهّمة، قلت أسلّم عليك، عساك بخير.
- بخير .. شكراً. واصلت مازحةً: بخير ما دمتُ لا أتابع الأخبار.
320
- أنت محظوظة .. أنا لا أتابع الأخبار .. بل أتبعها !
- وأين ألقت بك الحروب ؟
- مازلتُ بين جنيف والعراق. تعبت .. إنّها حرب بسبع أرواح.
- أغبطك .. لا تتذمّر .. في العمل الإنساني. على الأقل لا تُكافَأ بالجحود، لأنك لا تعمل لإنسان بل للإنسانية.
- صدقتِ والله. مآسي الناس تُنسيك قدرتهم على الأذى، على كل حال أتمنّى أن أراك، لديّ الكثير مما أقوله لك، ثمّة مشروع كنت أودّ أن أحدّثك عنه منذ فيينا. هل هناك مجال لنلتقي؟
- إلى متى أنت هنا ؟
- لأربعة أيام على الأكثر.
- نلتقي غداً إذاً.
كان في هاتفه إشارة من القدر. هي تثق بالإشارات. لعلّ الله تقبّل دعواتها. لا تدري ما هو المشروع لكنها تريده. تحتاج إلى طوق نجاة كي تنجو بنفسها من جزيرة الأحزان التي تقيم فيها منذ أشهر.
ذهبت إليه في الغد دون زينة، عدا كحل رسمت به عينيها. لا رغبة لها في أن تقوم بجهد أكبر، كي تبدو أجمل من أيامها الشاحبة. طمأنها أن وجدته بدوره بلحية عمرها يوم أو يومان، من دون أن يفقد شيئاً من هيبة حضوره.
قال بالفرنسية ممازحًا:
- أما قلت لك إننا سنلتقي ؟
ردّت:
- لن تقنعني أنّ المصادفة رتّبت لنا موعداً ثالثاً !
- أنت تسيئين الظنّ بالقدر.
321
- لنقل إنّني لا أصدّق المصادفات المُتقنة.
- لا تدقّقي في هدايا الحياة. حضرت لأتابع موضوع اللاجئين العراقيين. ما كان يمكن أن أكون هنا لولا أن سورية تستقبل مليون ونصف مليون لاجئ عراقي. المصادفة هي وجودك .. أي ريحٍ طيّبة أتت بك إلى هنا ؟
ما كان لها من رغبة في أن تقصّ عليه قصّتها مذ ذلك الزمن البعيد. هي جاءت لتنسى لا لتتذكّر.
ردّت ممازحة:
- هي تلك الرّيح ذاتها التي أتت بك حتّى نلتقي.
قال:
- أمّا وقد جئتُ، فأودّ أن أعرف لماذا تركت الجزائر. علمت أنّك عشت مأساة. يعنيني أن أعرف منك القصة.
أكبرت فيه أنّه لم يتوقّف عند ما أوحت له به من اشتياق. لعلّه يدري أنها ليست صادقة في شوقها إليه، وإلّا كانت اتّصلت به قبل خمسة أشهر. هو يريد أن يقاسمها ألمها لا كذب مجاملاتها.
ماكان من مفرّ. راحت تروي له قصتها منذ البداية. قصّتها ، من دون تلك القصّة.
قال معلّقاً بأسى:
- كنّا نريد وطناً نموت من أجله ، وصار لنا وطن نموت على يده.
واصل بعد شيء من الصمت مواسياً:
- لا خيار لك إلّا التفوّق، إنّ المآسي الكبيرة هي التي تجعلنا كباراً. أرى في المشروع الذّي أعرضه عليك فرصة لبداية شهرة عالمية. نُعدّ لحفل كبير يقيمه نجوم عالميّون، وأريد أن تشاركي
322
فيه، سيعود ريعه لدعم اللاجئين العراقيّين، فنحن على أبواب الشتاء وعشرات الآلاف يعيشون في المخيّمات. سيكون الحفل في ميونيخ وينقل مباشرةً من خلال عدّة فضائيات أجنبية.
كان أجمل خبر سمعَته منذ سنوات. إنه خبر نجاتها. ردّت بشهقة الفرحة:
- يا الله .. شكراً لأنك فكّرت بي . أنت باب سعدي.
ردّ:
- بل بوّابة حظك .. الأبواب الصغيرة لا تليق بك.
(( يا له من رجل ! )). لكن قلبها عاود التفكير في الرجل الآخر.
خشيت ألا يسمع أبداً بهذا الحفل وألّا يراه. مايعنيها قبل كلّ شيء، هو أن يراها تغنّي في حفل عالمي. هي لن تُشفى مادامت لم تثأر منع بالنجاح.
سألته متعجّبة:
- لماذا ميونيخ ؟
أجاب:
- لأنّ جالية عراقية كبيرة تعيش في ألمانيا. كان الله في عون العراقيّين، كم دفعوا ثمن وجودهم، لمصادفة جغرافية، على أغنى أرض عربيّة، لحظة حدوث أكبر عمليّة سطو تاريخيّة قام بها بلد لنهب بلد آخر. تصوّري ، منذ أشهر ونحن نعمل على الإعداد لحفل سنجمع فيه مليون دولار حدّاً أقصى، إنّها أقلّ من زكاة أصغر لصّ أنجبه العراق الجديد. لننجو من طاغية، نستنجد دوماً بمحتلّ، فيستنجد بدوره بقطّاع طرق التاريخ ويسلّم إليهم الوطن.
323
كان مهموماً بالعراق، بإمكانه أن يحكي لساعات عن بلد المليون نخلة، الذي غدا بلد المليون قتيل، لكنها كانت أكثر سعادة من أن تصغي لما يقوله، إنّها فرصتها لتعود إلى الأضواء من علوّ شاهق. تريد أن يراها ذلك الرجل وهي واقفة على تلك القمّة مع الكبار. أن تطلّ عليه من جبلها، لا من المطار الذي تركها فيه. الفنّ كما الإبداع ، هو في نواته الأولى بذرة انتقام.
سألته بلهفة:
- متى يكون لحفل؟
- في 5 ديسمبر . أمامك شهر للاستعداد. اختاري أغاني جميلة لأنك تتوجّهين لجمهور لا يعرفك.
- لا أخفي عنك أنّ حفلاً كهذا يخيفني.
- لا تهتمّي. قد تصعدين على المسرح نكرة، لكن حين تنزلين منه لن ينسى أحد اسمك. أريدك أفضلهم. تذكّري أنّك كما ترين نفسك تكونين.
افترقا على أن يتهاتفا ليحدّدا موعداً آخر يزوّدها فيه التفاصيل.
أحبّت رجولته الشامخة في تواضعها الجميل، وغيرته على اسمها. إحساس بالأمان تسرّب إلى قلبها. حمدت الله لوضعه هذا الرجل في طريقها، فما عاد بإمكانها التجذيف وحدها.
لكن ما أحبّته حقاً هو تاريخ 5 ديسمبر . كانت تحتاج إلى تاريخ لتوثيق انقلابها ، لا شيء بعده يعود كما كان. يومذاك، لن تقلب صفحة حياتها .. ستمزّقها بشهادة الكاميرات.
324
عندما التقته بعد يومين، كانت تبدو أجمل وأكثر بهجة. لأشهرٍ، ما كانت لها مشاريع .. بل ذكريات. كانت الحياة بالنسبة إليها لا تُصرَّف إلّا في الماضي. اكتشفت أن السعادة هي أن تملك مشروعاً. أما العافية، فهي أن تضحك من القلب .. أخيراً.
بعد مغادرته، واصل عزّ الدين مهاتفتها ليطمئنّ على سير استعداداتها. يحرّضها حيناً على العمل، وأحياناً يحلو له مفاجأتها، يطلبها أثناء أسفاره من أرقام لا تعرفها. وعندما تسأل ((من؟))، يجيب (( الحاج)) فتزداد حيرة لكون نصف الشعب الجزائري حجّاجاً.
تسأل (( أيّ حاج ؟ ))، يردّ (( في الواقع أنا ما زلت ما حجّيتش. ما عملت غير (( عمرة )). ما تنادينيش يا حاج، ناديني يا عمري )).
كانت نكتة جزائرية عن مدير أزعجه أن تناديه سكرتيرته (( يا حاج )) فاخترع لها فتوى كي تناديه (( ياعمري)). ضحكت للنّكتة كما لم تضحك منذ أيّام الجزائر.
ساعد مزاجها المبتهج في هجومها على العمل بحماسة، بما أودعها عزّ الدين من نزعة لرفع التحدّي.
- ليس مسموحاً أن تقدّمي إلّا عملاً عظيماً. أنت في هذا الحفل لا تمثّلين نفسك بل الجزائر.
أرعبها أن تغنّي مع الكبار. هي سهرة واحدة، لا تملك منها إلّا نصف ساعة لتلعب مستقبلها على طاولة القدر. لفرط خوفها تحرّرت من الخوف. قرّرت أن تربح الرهان. نبت لها ريش حيث ما توقّعت أن يكون لها جناحان.
***
325
على هذا العلوّ، في طائرةٍ تحمل اسمه، هو يملك قطعة من السماء. من حيث هو، تبدو له تلك الفتاة في الأسفل كالعصافير التي تقف مَثنى وثلاثَ على حبال الكهرباء. هي واحدة من الحشد الذي لا يُرى. لا جناحان لها لتطاله، فكيف لطائر نبيل يفرد جناحيه على القارّات، أن يعاشر عصفورة ؟!
غير أن فكرة أسراب العصافير المتأهّبة للطيران، راحت تتداعى في خيالاته لتوقظ هواجسه. ذكّرته بمخاطر الحمام والعصافير على الملاحة الجويّة، وكلّ الجهود التي تقوم بها المطارات لإبعاد الطيور عن المدارج، لأنها تحبّ الاختباء في محرّكات الطائرات الجاثمة، فتتسبّب لاحقاً في سقوطها. يحدث أيضاً أن ترتطم بالزجاج الأمامي للطائرة، وتحجب الرؤية عن قائد الطائرة، فترغمه على العودة إلى مطار إقلاعه.
لفرط إلمامه بما قد تتسبّب به الطيور من كوارث، أصبح يعاني من رهاب ذلك العدوّ الصغير غير المرئيّ. ما من مرّة، لحظة تأهّب طائرته للإقلاع، إلّا خطرت بذهنه تلك الطيور، حتّى سكنه في لا وعيه الخوف من تلك الكائنات الصغيرة.
كيف أن طيوراً صادقها في الأرض، غدت عدوّته يوم بلغ السماء؟
أكلّما صعدنا ازددنا خوفاّ؟ أم وجودنا في الأعالي يجعلنا نتوجّس الشّر حتّى من أصغر الكائنات؟ أم ترانا نكون الأكثر هشاشة، عند بلوغنا قوّتنا الأقصى، ما دام بإمكان طائر صغير أن يُسقط طائراً تكنولوجياً في ضخامة طائرة؟
326
أكان عليه إذاً أن يحذر تلك الفتاة التي كانت عصفورة تنقر الحَبّ في كفّه، وحين خرجت من حياته، اختبأت في (( محرّك قلبه )). وتلافيف ذاكرته، وبإمكانها الآن وقد غدت خارج مجال رؤيته، أن تكيد له، وتقف في حفل عالمي لتغنّي، متحدّية سطوته، ومهدّدة صرح كرامته؟
بطلّتها في ذلك اللون الزاهي، ألحقت بقلبه عطباً غير مرئيّ، وضرراً عاطفيًّا أصابه في الصميم.
كان يعتقد أنّه يمتلك ثقافة البهجة، بينما تملك هي ثقافة الحزن، ولا أمل في انصهار النار بالماء. فكيف انقلبت الأدوار، وإذا بها هي من تشتعل فرحاً،بينما شيء منه ينطفئ، وهو يتفرّج عليها تغنّي؟ ربما كان يفضّل لو خانته مع رجل، على أن تخونه مع النجاح. النجاح يجمّلها، يرفعها، بينما ظنّ أنه حين ألقى بها إلى البحر مربوطة إلى صخرة لامبالاته، ستغرق لا محالة. من فكّ رباطها؟ بمن استنجدت لتقطع المسافة بين القاع والسطح؟
برغم ذلك، تابع من بيته حفلها إلى الآخر، محتفظاً لقلبه بباقة التوليب التي اعتاد أن يرسلها إليها.
تماماً كما يوم رآها أوّل مرّة، هو جالس ذات مساء يتفرّج عليها عبر شاشة تلفازه. لقد عادت عصيّة وقصيّة كما كانت.
هو ذا .. رجل برازيلي المزاج، أنفق عمراً في ابتكار الأقنعة. الحبّ بالنسبة إليه كرنفال ومدارس تنكّريّة للبهجة. إنّه المهرّج الذي يخلو بنفسه ليحزن، والساحر الذي يعود خاسراً بعد كلّ استعراض.
327
ثمّة حزن يعرفه، وآخر يتعرّف إليه الليلة. حزن ما خبر من قبل صدمته.
حسب الإتيكيت، عليه أن يرسل سلّة توليب لأحزان دخلت حياته للتوّ. أو ليست الأحزان أنثى تختبره بغواية الألم؟
عِمتِ مساءً مولاتي الأحزان. هل تسمحين لي أن أهدي لك باقات توليب لم أقطفها. فأنا ما عدتُ البستانيّ الذي كان.
***
أراد أن يعطيها درساً في الغناء، ستلقّنه درساً في الاستغناء.
ماذا يعرف عنها هي سليلة (( الكاهنة ))؟ امرأة لم تخسر حرباً واحدة على مدى نصف قرن. كلّما تكالب عليها الأعداء، وتناوب الخصوم على مضاربها، خسروا رهان رجولتهم في تركيع أنوثتها. من حيث جاءت، تولد النساء جبالاً. أمّا الرجال، فيولدون مجرّد رجال.
كالجنود العائدين من المعركة، واضعين وروداً في فوّهات البنادق، عادت. لا أحد يتوقّع أمام طلّتها كم عانت، وفي أيّ الخنادق، لا الفنادق، أقامت. ولا كم من الهجمات صدّت.
عزلاء انتصرت، بتلك الهشاشة التي ضنعت أسطورة شجاعتها. لقد أكسبها الظلم حَصانة الإيمان. مذ أدركت أنّ طغاة الحبّ كطغاة الشعوب، جبابرة على النساء، وصغار أمام من يفوقهم جبروتاً، وأنّ سيّدك أيضاً له سيّده، وطاغيتك له من يخشاه، صغُر السادة في عينيها، وغدت سيدة نفسها. لا تخاف غير الله، ولا تنبهر إلّا بأصغر كائناته.
328
بدءاً، تحمّست للمشاركة في هذا الحفل العالمي، كي تضمن أن يراها وقد خلعت سوادها، فيدرك أنّه من خلعت. كان يعنيها أن تقهره. كانت في لونها الجديد شهّية كمؤامرة عشقيّة. تركت له الأسوَد، فليرتدِ هو الحداد عليها.
(( لكلّ طائر لون صيحته. ارتدت لون العصيان.
أرادت أن تثأر لكرامتها لحظة تقع عيناه عليها وهي في ثوبها اللّازوردي. لون اختارته أمّها ليبعد عنها العين، لفرط بهائها، كما قالت.
لكن، أثناء استعدادها للحفل، وتدريباتها طوال شهر على الأغاني التي ستؤدّيها، ما عاد الثأر يعنيها، فالهوس بالانتقام، يعني أن نسمح لمن نريد أن نثأر منه بمواصلة إبقائنا أشقياء به.
اليوم هي تغنّي للناس جميعاً ماعداه. ليس ثوبها، بل صوتها هو الذي يأخذ بالثأر ، من ذلك الحفل الذي أجبرها فيه يوماً على ألا تغنّي لسواه. هو اليوم الغائب الأوحد. أوّل ما اعتلت المنصة، اختفى طيفه من القاعة، غدا خلفها، قرّر قلبها ألا يلتفت إليه، فالنهر لا يلتفت وراءَه. درس آخر تعلّمته من حيث جاءت.
كما لو أنّه، بمنعها من الغناء، حبس نبعاً، وحال دون مضيّه إلى مجراه، وها هو سدّه ينهار، وهي تتدفّق شدواً.
هي اليوم امرأة حرّة كما هم (( الشاويّة )): (( الرجال الأحرار)).
صوتُها ناي يحنّ إلى منبته، يعود موّالاً إلى تربته. لا يحتاج إلى ميكروفون، إنه ينتشر مع الهواء، عابراً الأودية، ماضياً صوب الأعالي
329
التي غنَّى منها جدّها. لصوتها شجرة عائلة، تنحدر من حناجر (( أولاد سلطان)). صوتها يسلطن طرباً، يعود إلى قمم الأوراس، حيث وحدها الحبال الصوتيّة يمكنها تسلّق الجبال. صوتها يشدو .. يعلو .. يغنّي:
نخيل بغداد يعتذر لك
أيّها الراحل باكراً مع عصافير الوقت
ليس هذا الزمن لك
لم يحدث أن كنت أكثر حياة
كما يوم حللت ضيفاً على مدن الموت
خُطاك كانت تعانق الأرصفة
وعيناك شفة
تقبّل وجنات الصغار
شهياً كنتَ ومنتظراً كنبيّ
لذا ما لزمتَ الحذَر
وأنت تجتاز القدَر
إلى الضفة الأخرى
كنتَ تودّ يومذاك لو أنّ يدك
كانت في يد من تحبّ
لو أنّ قبلةً أخيرةً أودت بكَ
فمتَّ في حادث حبّ
لكنّك سقطت
والعصافير تنقر قمح الحبّ في كفّك
330
أتكون ذهبت لتسقي بدمك
شجرة الإنسانيّة
يا عاشقاً من حلمه ما عاد
لا تأبه بالموت تماسك
يسأل عنك
عسى تواسي ضفائر الانتظار
وتخلع عن الصبايا الحداد
صوتُها الليلة يُغنّي لحرّيتها. يصدح احتفاءً بها، صوتها الليلة لا يحب سواها. لأوّل مرّة تقع في حبّ نفسها.
هي ليست معنيّة بالذين يصفّقون لها واقفين، ولا بالذين يتابعونها في بيوتهم جالسين أمام شاشات تلفازهم. حتّى هو، ما عاد يعنيها أن يكون الآن يشاهدها في أحد بيوته، وقد خلعت ما كان يسمّيه (( لونهما)).
وهو يمجّد سوادها، كان يريد أن يُديم استعبادها، فأثناء ذلك، كان يخونها مع عشيقته الأزليّة، تلك الشهيّة التي لا ترتدي حداد أحد: الحياة.
الرجل الذي لم يعطها شيئاً، وعلّمها كلّ شيء، تناسى أن يعلّمها درسه الأهم: الإخلاص للحياة فقط.
ذات يوم، عثرت على حكمة أبقتها في ذهول . بدا لها وهي تقرأها، أنها سرقت آخر أسراره. لكأنّه من كتبها:
331
(( ارقص كما لو أن لا أحد يراك
غَنِّ كما لو أن لا أحد يسمعك
أحبَّ كما لو أن لا أحد سبق أن جرحك)).
كم من الأشياء تفعل هذا المساء لأوّل مرّة.
أيتها الطيور، أيتها الجبال، أيتها الأمواج، أيتها الينابيع، أيتها الشلّالات، يا كلّ الكائنات، إنّي أسمع ناياتك تناديني.
أيّتها الحياة،
دعي كمنجاتك تُطِل عزفها .. وهاتي يدك.
لمثل هذا الحزن الباذخ بهجة..
راقصيني.
بيروت، نيسان 2012
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق