الحركة الأولى
(( الإعجاب هو التوأم الوسيم للحبّ.))
كبيانو أنيق مغلق على موسيقاه، منغلق هو على سرّه.
لن يعترف حتّى لنفسه بأنّه خسرها. سيدّعي أنّها من خسرته،
وأنّه من أراد فراقًا قاطعًا كضربة سيف، فهو يفضّل على حضورها
العابر غيابًا طويلاً، وعلى المُتع الصغيرة ألمًا كبيراً، وعلى الانقطاع
المتكرّر قطيعة حاسمة.
لشدّة رغبته بها، قرّر قتلها كي يستعيد نفسه، وإذا به يموت
معها، فسيفُ العشق كسيف الساموراي، من قوانينه اقتسامُ الضربة
القاتلة بين السياف والقتيل.
كمل يأكل القطّ صغاره، وتأكل الثورة أبناءها، يأكل الحبّ عشّاقه.
يلتهمهم وهم جالسون إلى مائدته العامرة. فما أولَمَ لهم إلّا ليفترسهم.
لسنوات، يظلّ العشّاق حائرين في أسباب الفراق. يتساءلون:
من ترى دسَّ لهم السمّ في تفّاحة الحبّ، لحظة سعادتهم القصوى؟ لا
أحد يشتبه في الحبّ، أو يتوقّع نواياه الإجراميّة. ذلك أنّ الحبّ سلطان
فوق الشبهات، لولا أنّه يغار من عشّاقه، لذا يظلّ العشّاق في خطر،
كلّما زايدوا على الحبّ حبًّا.
12 أحلام مستغانمي
كان عليه إذًا، أن يحبّها أقلّ، لكنّه يحلو له أن ينازل الحبّ
ويهزمه إغداقاً. هو لا يعرف للحبّ مذهبًا خارج التطرّف، رافعًا سقف
قصّته إلى حدود الأساطير. وحينذاك، يضحك الحبّ منه كثيراً، ويُرديه
قتيلاً، مضرّجًا بأوهامه.
أخذ غليونه عن الطاولة وأشعله بتكاسل الأسى.
إنّها إحدى المرّات القليلة التي تمنّى فيها لو استطاع البكاء،
لكنّ رجلاً باذخ الألم لا يبكي. لفرط غيرته على دموعه، اعتاد الاحتفاظ
بها. هكذا، غدا كائنًا بحريًّا، من ملح ومال.
هل يبكي البحر لأنّ سمكة تمرّدت عليه؟ كيف تسنّى لها
الهروب وليس خارج البحر من حياة للأسماك؟
قالت له يومًا ((لا أثق برجل لا يبكي)).
اكتفى بابتسامة.
لم يبح لها أنّه لا يثق بأحد. سلطة المال، كما سلطة الحكم،
لاتعرف الأمان العاطفيّ. يحتاج صاحبها إلى أن يُفلس ليختبر قلوب
من حوله. أن تنقلب عليه الأيّام، ليستقيم حكمه على الناس. لذا لن
يعرف يومًا إن كانت قد أحبّته حقًّا لنفسه.
ذلك أنّ الأيّام لم تنقلب عليه، بل زادته مذ افترقا ثراءً كما لو
أنّها تعوّضه عن خساراته العاطفيّة بمكاسب مادِّيَّة.
هو يرتاب في كرمها. يرى في إغداقها عليه مزيدًا من الكيد له.
أوليست الحياة أنثى، في كلّ ما تعطيك تسلبك ما هو أغلى؟
يبقى الأصعب، أن تعرف ما هو الأغلى بالنسبة إليك، وأن تتوقّع
أن تُغيّر الأشياء مع العمر ثمنها.. هبوطاً أو صعودًا.
الأسوَد يليق بكِ 13
يوم شاهدها أول مرة تتحدث في حوار تلفزيوني، ماتوقع لتلك
الفتاة مكانة في حياته، فلا هو سمع باسمه يوما، ولا هي كانت تدري
بوجوده. لكنّها عندما أطلّت قبل أيّام، كان واثقاً أنّها لا تتوجّه لسواه،
فما كانت أبّهتها إلاّ لتحدّيه.
غادرت حياته كما دخلتها في شاشة تلفزيون. لكأنّ كلّ شيء
بينهما حدث سينمائيًّا في عالم افتراضي. وحده الألم غدا واقعاً،
يشهد أنّ ما وقع قد حدث حقًّا.
عزاؤه أنّها لا تسمع لحزنه صوتاً – وحده البحر يسمع أنين
الحيتان في المحطيات – لذا لن تدري أبدًا حجم خساراته بفقدانها.
هل أكثر فقراً من ثريّ فاقد الحبّ؟
قال لها يومًا بنبرة مازحة حقيقة أخرى: ((تدرين.. لا أفقر من
امرأة لا ذكريات لها)). لم يبدُ أنّها قد استوعبت قوله، أضاف: ((كانت
النساء، قبل أن توجد المصارف، يخبّئن ما جمعن على مدى العمر
من نقودٍ ومصاغٍ في الوسادة التي ينمن عليها، تحسّبًا لأيام العوز
والشيخوخة. لكن أثرى النساء ليست التي تنام متوسّدة ممتلكاتها،
بل من تتوسّد ذكرياتها)).
كانت أصغر من أن تعيَ بؤس امرأة تواجه أرذل العمر دون
ذكريات جميلة.
كيف لفتاة في السابعة والعشرين من العمر، أن تتصور زمنًا
مستقبليًّا يكون فيه جليسها ماضيها..
أوصلته عزلته إلى هذه الاستنتاجات. كثيراً ما يعود إلى وكره.
يرتّب ذكرياته، كما لو كان يرتّب ملفّاته. هو اليوم هناك ليعدّ خساراته.
14
لقد أفقره بُعدها. لكنّه ليس نادماً على ما وهبها خلال سنتين من دوار اللحظات الشاهقة، وجنون المواعيد الباهرة. حلّق بها حيث لن تصل قدماها يوماً. ترك لها إلى آخر أيامها وسادة من ريش الذكريات, ماتوسّدتها إلّا طارت أحلامها نحوه. فقد وهبها من كنوز الذكريات، مالم تعشه الأميرات، ولا ملايين النساء اللائي جئن العالم وسيغادرنه من دون أن يختبرن مابقدرة رجل عاشق أن يفعل.
هكذا هو مع كلّ امرأة أحبّها، حيثما حطّ رحاله, استحال على رجل أن يطأ مضاربه. فلتحبّ بعده من شاءت.
مايندم عليه حقاً, ليس ما وهبها، بل ماباح به لها. لم يحدث أن استباحت أعماقه امرأة. كان غموضه إحدى سماته، وصمته جزءاً من أسلحته.
لعلّها كانت التاسعة مساءً حين رآها أوّل مرّة.
كان في مكتبه، قد انتهى يومها من متابعة نشرة الأخبار، منهمكاً في جمع أوراقه استعداداً للسفر صباحاً، حين تناهى إلى سمعه صوتها في برنامج حواري ليس من عادته متابعته.
كانت شظايا جمل تصله من كلامها، ثم راحت لهجتها المختلفة تستوقف انتباهه. لهجة غريبة، منحدرة من أزمنة الفلامنكو، تُوقعك في أشراك إيقاعها.
وجد نفسه في النهاية يجلس لمتابعتها.
راح يشاهد بفضول تلك الفتاة، غير مدرك أنّه فيما يتأمّلها، كان يغادر كرسيّ المشاهد، ويقف على خشبة الحبّ.
لفرط انخطافه بها، ماسمع نبضات قلبه الثلاث التي تسبق رفع الستار عن مسرح الحبّ، معلنة دخول تلك الغريبة إلى حياته.
15
الحبّ لايعلن عن نفسه، لكن تشي به موسيقاه، شيء شبيه بالضربات الأولى في السمفونية الخامسة لبيتهوفن.
سانتيانا الذي قال ((خلق الله العالم كي يؤلّف بيتهوفن سمفونيته التاسعة))، ربما كان يعني أن الله خلق هذا العالم الباهر، كي لانستطيع أمام عظمته إلاّ أن نتحوّل إلى كائنات موسيقيّة، تسبّح بجلاله في تناغم مع الكون.
ما الانبهار إلاّ انخطاف موسيقيّ.
يذكر طلّتها تلك، في جمالها البكر كانت تكمن فتنتها. لم تكن تشبه أحداً في زمن ما عادت النجوم تتكوّن في السماء، بل في عيادات التجميل.
لم تكن نجمة. كانت كائناً ضوئياً، ليست في حاجة إلى التبرّج كي تكون أنثى. يكفي أن تتكلّم.
امرأة تضعك بين خيار أن تكون بستانياً، أو سارق ورود. لا تدري أترعاها كنبتةٍ نادرة، أم تسطو على جمالها قبل أن يسبقك إليه غيرك؟ لقد أيقظت فيه شهوة الاختلاس متنكرة في زيّ بستانيّ.
تتفتّح حيناً، كوردة مائيّة، وقبل أن تمدّ يدك لقطاف سرّها، تُخفي بنصف ضحكة ارتباكها وهي تردّ على سؤال، وتعاود الانغلاق، فيباشر عند ذاك رجالها نوبة حراستهم، وتغدو امرأة في كلّ إغرائها. امرأة لاتهاب الموت، لكنّها تخاف الحياة في أضوائها الكاشفة.
سيعرف لاحقاً أنّها لم تتمرّن على النجاح، ولا تهّيأت له. الثأر وحده كان يعنيها.
يسألها مقدّم البرنامج:
-لم تظهري يوماً إلا بثوبك الأسود..إلى متى سترتدين الحداد؟
16
تُجيب كمن يُبعد شبهة:
- الحداد ليس في مانرتديه بل في مانراه. إنّه يكمن في نظرتها إلى الأشياء. بإمكان عيون قلبنا أن تكون في حداد..ولا أحد يدري بذلك.
-يوم أخذت قرار اعتلاء المنصة لأوّل مرّة، هل توقّعتِ نجاحاً كهذا؟
- هل نعتقد أنّ المرء أمام الموت يفكّر في النجاح؟ كلّ ما يريده هو أن ينجح في البقاء على قيد الحياة. ما أردته هو أن أشارك في الحفل الذي نظّمه بعض المطربين في الذكرى الأولى لاغتيال أبي بأدائهم لأغانيه. قرّرت أن أؤدّي الأغنية الأحبّ إلى قلبه، كي أنازل القتلة بالغناء ليس أكثر..إن واجهتهم بالدموع يكونوا قد قتلوني أنا أيضاً.
-أما خفت أن تشُقّي طريقك إلى الغناء بين الجثث؟
- لقد غيرّ تهديد الأقارب سلّم مخاوفي. إنّ امرأة لاتخشى القتلة، تخاف مجتمعاً يتحكم حماة الشرف في رقابه. ثمّة إرهاب معنوي يفوق جرائم الإرهابيين.
تمتم المذيع مأخوذاً بكلامها:
-صحيح.
-تصوّر حين وقفت على الخشبة أوّل مرّة، كان خوفي من أقاربي يفوق خوفي من الإرهابيين أنفسهم. أنا ابنة مدينة عند أقدام الأوراس لا تساهل فيها مع الشرف.
-حسنٌ أن تكوني كسبت الجولة..ما دمت هنا بيننا.
-الجولة؟ الجولة يُنازل فيها طرف طرفاً أخر..ليس أن تكون وحدك على حلبة لتلقّي ضربات يتنافس الجميع على تسديدها إليك.
17
إنّ امرأة واقفة في حلبة ملاكمة، دون أن يحمي ظهرها رجل، ودون أن تضع قفازات الملاكم، أو تحمل في جيبها المنديل الدي يُلقى لإعلان الاستسلام، احتمال الخسارة غير وارد بالنسبة لها، لدا تفتح بشجاعتها شهيّة الرجال على هزيمتها، هذا ما أخاف والدتي وجعلها تصرّ على أن نغادر الجزائر إلى الشام بحكم أنّها سورية.
- أتعتقدين أنّ قصّتك الشخصيّة أسهمت في رواج أغانيك؟
- حتماً استفدت من تعاطف الجمهور، لكنّ العواطف الجميلة وحدها لاتصنع نجاح فنّان..الأمر يحتاج إلى مثابرة وإصرار. النجاح جبهة أخرى للمعركة.
- والحبّ؟
ردّت على استحياء:
- الحبّ ليس ضمن أولويّاتي.
- برغم ذلك كل أغاني ألبومك أغان عاطفيّة؟
ردّت ضاحكة:
- في انتظار الحبيب، أغنّي للحبّ!
- أنت إذاً تتحرّشين بالحب كي يأتي.
- بل أتجاهله كي يجيء!
- لو دعوتك إلى الحلقة التي نعدّها الشهر المقبل بمناسبة عيد العشّاق فهل تقبلين دعوتي؟
- طبعاً، وكيف أرفض للحبّ دعوة؟
- إذاً، لنا موعد بعد شهر من الآن.
***
18
للحظات بعد انتهاء البرنامج، ظلّ جالسًا مكانه مذهولًا.
أيّ لغة تتكلّم هذه الفتاة؟ كيف تسنّى لها الجمع بين الألم والعمق، أن تكون عزلاء وعلى هذا القدر من الكبرياء؟
على الرغم من مرور سنتين على ذلك اللقاء التلفزيوني، ما زال يذكر كلّ كلمة لفظتها، احتفظت ذاكرته بكل تفاصيله. ندم يومذاك لأنّه لم ينتبّه لتسجيله، فقد كان يحتاج إلى أخذ جرعات إضافيّة من صوتها، كمن يأخذ قرصاً من الأسبرين لمعالجة مرض مزمن. اكتشف مرضه للتوّ وهو يتابعها. كانت تنقصه امرأة مثلها كي يتعافى، ويتخلّص من كلّ الأجهزة الاصطناعيّة التي يستعين بها على حياة فقدت مباهجها.
كيف لم ينتبه إلى تسجيل ذلك البرنامج، كي يحفظ بطلّتها في براءتها الأولى، قبل أن تتغيرّ لاحقاً على يده؟ ذلك أنّه كان واثقاً أنّها ستكون له.
تابع فرحتها ومقّدم البرنامج يمدّها بباقات الورود التي وصلتها، ويقرأ عليها بطاقات أصحابها.
كانت مبتهجة كفراشة وسط حقول الزهور، شهّية بفرح طازج، له عطر شجرة برتقال أزهرت في جنائن الخوف. تمنى لو أنّها غنّت كي يرى دموع روحها تنداح غناءً، فقد أصبح له قرابة بكبرياء دمعها. فاجأته رغبة جارفة في رؤيتها، في أن يحظى بلقائها. أحسّ بأنها أهدت له ما كان ينقصه ليحيا: الشغف. أطفأ جهاز التلفزيون، وراح يحشو غليونه شباكاً للإيقاع بها. يريد الإمساك بهذا النجم الهارب.
***
19
في الصباح، حال انتهائه من إجراءات المطار، قصد السوق الحرّة بحثاً في جناح الموسيقى عن شريطٍ لها. لكنه لم يكن يعرف عمّا يبحث بالتحديد، فهو لايعرف اسمها، ولايدري كيف يردّ على البائعة التي عرضت مساعدته.
راح يبحث دون جدوى عن صورتها فوق عشرات الأشرطة. دُهش لهذا الكمّ من المغنّيات اللائي لم يسمع بهنّ يوماً، فهو لايتابع البرامج الفنّيّة، ولا يستمع للأغاني الحديثة، ولا يطالع من المجلاّت إلّا الصحافة السياسيّة أو الاقتصاديّة. لكأنه يعيش في مجرّة أخرى.
أيكون الشريط قد نفد لفرط رواجه؟ أم هي ليست مشهورة كفاية لتتبنّاها إحدى شركات الإنتاج، وتؤمّن لها مكاناً في كبرى نقاط البيع؟
انتهى به الأمر إلى أن اشترى بحكم العادة مجموعة (( شتراوس )) في تسجيلٍ لحفل حديث.
في الطائرة التي كانت تقلّه إلى باريس، راح يتصفّح صُحف الصباح، وبعض المجلّات المتوفّرة على الدرجة الأولى، حين فوجئ بصورتها في صفحة فنّيّة لإحدى المجلات، مُرفقة بمقال بمناسبة صدور ألبومها الجديد.
إذاً، اسمها هالة الوافي. تمتم الاسم ليتعرّف إلى موسيقاه، ثم ترك عينيه تتأمّلانه بعض الوقت. شيء مايؤكّد له أنّه سيكون له مع هذا الاسم قصّة، فهذه المصادفات المتقاربة، تلقّاها كإشارة من القدر. ثم..إنّه يحبّ الأسوار العصيّة لأحرف اسمها.
20
أضاف إلى معلوماته أنّها تزور بيروت ترويجاً لألبومها الأوّل، وأنّها تُقيم في الشام مذ غادرت الجزائر قبل سنة ..وأنّها وُلدت ذات ديسمبر قبل سبع وعشرين سنة.
تأسّف لأنّ عليه أن ينتظر أحد عشر شهراً ليحتفل بعيد ميلادها. كان واثقاً أنّه سيكون ذلك اليوم معها. ذلك أنّه يثق تماماً بكلّ الأفكار المجنونة التي تعبر خيالاته كرؤى. فلسفته، أنّ كلّ ما يمكننا تخيّله قابل للتحقيق. يكفي أن نريده حقًّا، وأن نثابر على حلمنا.
طلب من سائقه الذي جاء ينتظره في المطار أن يوصله مباشرة إلى المكتب، وأن يحتفظ بحقيبته في السيّارة.
قلّما يأخذ معه حقيبة غير تلك الصغيرة التي يسحبها، فله في كلّ بيت خزانة ثياب، ولوازم لإقامة طويلة.
هذه المرّة أخذ معه بذلات جديدة. يحبّ أن يتحرّش بالجمال، أن يرتدي أجمل بذلاته، ولو احتفاءً بزجاجة نبيذ فاخر يحتسيها وحده في بيته. هو دائماً في كل لياقته، لأنه على موعدٍ مع أنثى تدعى الحياة. ومن أجل ألّا تتخلّى عنه هذه الأنثى، قرّر أن يعتني بصحّته.
قبل سنوات، كان يدّخن علبة سجائر في اليوم، ثم أخد قراراً حاسماً عندما بدأ يتجاوز العلبة. قال: (( لن تلمس يدي سيجارة بعد اليوم)). ولم يعد قطّ إلى التدخين. شُفي من إدمانه كما بسحر.
الإرادة هي صفته الأولى. بإمكانه أن يأخد قراراً ضد رغباته، وأن يلتزم به كما لو كان قانوناً صادراً في حقه، لا مجال لمخالفته. ذلك أنّه عنيد وصارم. صفتان دفع ثمنهما باهظاً، لكنّهما كانتا خلف الكثير من مكاسبه، فهو في الأعمال كما في الحياة، لايقبل الخسارة.
21
ما أراد شيئاً إلا ناله، شرط أن يبلغه كبيراً. يأبى أن يسلك أزقة التحايل والنصب الضيقة لتحقيق أحلامه. لكن ليس من السهل دائما أن تكون نزيهاً ومستقيماً في عالم الأعمال، أو أن تغفو أثناء منازلتك أسماك القرش. من غير المسموح للذّي يسبح مع الحيتان الكبيرة أن ينام.. وإلاّ انتهى في جوفها. لذا هو يعود إلى باريس للمرّة الثانية في غضون أسبوعين، لمتابعة عقد يعمل عليه منذ مدّة.
***
غادرت الاستوديو مبتهجة كفراشة. على المقعد المجاور لها سلّة ورد، وبجوار السائق باقتان أخريان. ظلّت طوال الطريق إلى الفندق ممسكة بالسلّة, خوفاً على زينتها.
عبثاً طمأنها السائق أن لا شيء سيحدث للورود. هو لا يدري أن لا أحد أهدى إليها ورداً قبل أن تصبح ((نجمة)). إنها كمن تكتشف على كِبر أنّها لم تمتلك يوماً دُميةً، وأنّهم سرقوا منها طفولتها. كلما قُدّمت لها باقة ورد، شعرت أنّها تثأر لمن قُمعت فيه أنوثتها. كما الليلة، تشعر وهي في عربة الورد هذه، كأنّها عروس، وإن كانت لا تدري لمن تُزفّ. بلى هي تُزفّ للنجاح. غير أنّ النجاح زوج مزاجيّ لا يُعوَّل عليه، يمكن أن يتخلّى عنها، تماماً كما عقد قرانه عليها، لسبب وحده يعرفه. حال وصولها إلى غرفتها، راحت تتفقّد باقات الورود بسعادة. ثم تذّكرت أنّها لا تدري مع من تقتسم فرحتها، وهذه أعلى درجات الوحدة.
22
حزنت لأن لا أحد سيرى هذه الباقات بتنسيقها الجميل. ثمَ هي لاتملك آلة تصوير، والورود ستذبل. أوصلها التفكير إلى العمر الذي يمضي بها، وذلك الشابّ الذي كانت ستتزوّجه وتخلّت قبل سنتين عنه، فأثارت بذلك غضب أهلها، خشية أن تذبل في انتظار خطيب لا يأتي.
لا أحد يُخير وردة بين الذبول على غصنها..أو في مزهريّة. العنوسة قضيّة نسبيّة. بإمكان فتاة أن تتزوّج وتنجب وتبقى رغم ذلك في أعماقها عانساً، وردة تتساقط أوراقها في بيت الزوجيّة.
(( ما الذي ينقصه؟ أيّ عيب وجدت فيه كي تفسخي الخطبة؟ أتعتقدين أن كثيرين سيتسابقون إلى الزواج بمعلّمة أبوها مغنّ؟ الطبيبات والمحاميات ما وجدن رجلاً وأنت فرّطت في شابّ من عائلة كبيرة.. تركته المسكين كالمجنون لا يعرف لمن يشكو..)).
نجحت عمّتها في التأثير حتّى على أمّها، لكن ما فاجأها أنّها لم تجد تفهماً لدى والدها، وهي ابنته الوحيدة العزيزة.
أكان سيفهمها لو قالت له وهو موسيقيّ، إنّ لقادر إيقاعاً خاطئاً. لم يكن سيّئ الصوت، كان سيّئ الإيقاع، وهذا أكثر إزعاجاً. كان نشازاً مع موسيقاها الداخليّة، تلك التي ماكان يملك ((أُذناً)) لسماعها.
سدىً حاولت أن توفّق بين إيقاعيهما. كانا آلتين لا تصلحان لعزف سمفونيّة مشتركة. فكيف إذاً لروحيهما أو جسديهما أن يتناغما؟ كان قادر مزماراً تتعذر دوزنته مع قيثارتها. أثناء انهماكها في ضبط الإيقاع، كان مشغولاً بضبط النفس، منهمكاً في سدّ كلّ ثقوب المزمار بمخاوفه، وتردّده، وخجله.
23
كيف لجسده الأبكم محاورة أنوثتها الصارخة؟ وكيف لها أن تتعرّى أمام رجلٍ لم تجرؤ يوماً على أن تُعرّي أمامه صوتها؟
من تناقض طباعهما، أدركت أنّ الحب، قبل أن يكون كيمياء، هو إيقاع كائنين متناغمين، كأزواج الطيور والفراش التي تطير وتحطّ معاً، دون أن تتبادل إشارة.
الحبّ هو اثنان يضحكان للأشياء نفسها، يحزنان في اللحظة نفسها، يشتعلان وينطفئان معاً بعود كبريت واحد، دون تنسيق أو اّتفاق.
معه كان عود الثقاب رطباً لا يصلح لإشعال فتيلة!
***
استيقظت على منظر الورود التي ازدادت تفتّحاً أثناء الليل. لولا أنّها تنقصها قطرات الندى لتبدو أجمل، فهكذا اعتادت رؤيتها في طفولتها في صباحات مروانة الباكرة. تدري أنّه ما من أمل في أن يتساقط الندى على ورود المزهريّات أو يحطّ على مخادع الفتيات الوحيدات!
وحدها الورود التي تنام عارية ملتحفة السماء، مستندة إلى غصنها، تحظى بالندى. لكن حتّى متى بإمكان غصن أن يسند وردة ويُبقيها متفتّحة؟ سيغدر بها، وسيسلّمها إلى شيخوختها غير آبه بتساقط أوراق عمرها.
ذكّرتها الورود بالزوال الآثم للجمال، في عزّ تفتّحها تكون الوردة أقرب إلى الذبول، وكذا كلّ شيء يبلغ ذروته، يزداد قرباً من زواله. فما الفرق إذاً بين أن تذبل وردة على غصن أو في مزهريّة؟
24
في الواقع أيقظها اتصال من إحدى الصديقات في الجزائر، تهنئها على حلقة أمس وتبشّرها بأنّ ((كلّ الناس في الجزائر شافوها )). نقلت أيضاً إليها سلام زميلة سابقة في المدرسة:
- نصيرة تسلّم عليك بزّاف.. طلبت منّي تلفونك واش نعطيهو لها؟ بالمناسبة..قالت لي باللّي مصطفى تزّوج أستاذة جات جديدة للمدرسة وطلب نقلهم للتدريس في باتنة.
كنقرة على نافذة الذاكرة، جاء ذكره. شيء من الأسى عبرها. حنين صباحي لزمن تدري الآن أنه لن يعود. لعلّها الذكريات تطوّق سريرها، وحين ستستيقظ تماماً، ستنسى أن تفكرّ في ذلك الرجل الذي أصبح إذاً لامرأة أخرى!
امرأة تحمل اسمه، ستحبل منه في ساعة من ساعات الليل أو النهار. امرأة لا تعرفها ستسرق منها ولدين أو ثلاثة، لكنّها لن تأخذ أكثر. لن يمنحها ضحكته تلك. الزواج سيغتال بهجته وروحه المرحة... وفي هذا خُبث عزائها.
مصطفى هو الوحيد الدي كان من الممكن أن يسعدها. كانت تحبّ طلّته المميّزة، أناقة هيئته، شجاعة مواقفه، طرافة سخريته حين يغازلها بطريقة جزائريّة مبتكرة حسب الأحداث، كيوم قال لها (( أفضّل، على إرهاب البنات، الإرهابيين.. على الأقلّ هم لا يغدرون بك. يَشهرون نواياهم، يصيحون ((الله أكبر)) قبل الانقضاض عليك بسواطيرهم وسكاكينهم. البنات يُجهزن عليك دون تنبيهك لما سيحلّ بك. عندما تصرخ يكون قد تأخّر الوقت، الله يرحمك.. ((أكلك فوكس)). لو أصرخ الآن مثلاً وأقول إنّك ذبحتِني وأنت ترفعين خصلة
25
شعرك، أو تنسين زرًّا مفتوحاً أعلى ثوبك، لن يأتي أحد لنجدتي، فالقتل إغراءً لا يعتبر عنفاً.. لأنّه جريمة غير معلنة تحبب للضحيّة موتها!)).
ذات مرّة في زمن المذابح، كاد يقتلها ذعراً وهو يستقبلها في الصباح سائلاً:
- هل صادفتِ في طريقك سيّارة إسعاف؟
ردّت مرعوبة:
- لا.. لم ألحظ ذلك.. هل حدث شيء؟
أجاب بجدَّيَّة:
- أتوقّع أن تحدث أشياء.. لا بد أن تلحق بك سيّارة إسعاف لجمع الجرحى من الطرقات وأنتِ تمشين هكذا.. على صباح ربّي!
مصطفى تمنّته زوجاً. الحياة معه لها خِفّةُ دمه، والقلب لا تجاعيد له. ربّما كان يمكن أن يحدث ذلك لو أنّها بقيت في مروانة. لكن الأحداث تسارعت بعد اغتيال والدها، وأخذت مجرى تجاوزه أمنياتها.
لم يُمهلها القدر وقتاً كافياً لقصّة حبّ. في مدينتها تلك، الحبّ ضرب من الإثم، لايدري المرء أين يهرب ليعيشه.. في سيّارة؟ أم في قاعة المعلّمين؟ أم على مقعد في حديقة عامّة؟
الخيار هو بين تفاوت الشبهات ليس أكثر. آخر مرّة حاولا الجلوس على كرسيّ في حديقة، كان مجرّد الجلوس معاً فضيحة انتشرت بسرعة ((خبر عاجل)).
كان يمكن أن تكون الكارثة أكبر، إذا يحدث أن تدهم قوات الأمن الحدائق وتحقق مع كل اثنين يجلسان متجاورين.
26
في نوبة من نوبات العفّة، ألقي القبض ذات مرّة في العاصمة على أربعين شاباً وصبيّة معظمهم من الجامعييّن، وأودعوا السجن فيما كان الإرهابيّون يغادرونه بالمئات مستفيدين من قانون العفو! كان زمناً من الأسلم فيه أن تكون قاتلاً على أن تكون عاشقاً.
في تلك المرّة الوحيدة التي زارا فيها حديقة عامّة، أصيبت بالذعر حين مرّ بهما أحد المختلّين وهو يتشاجر مع نفسه، ويشتم المارّة ويهدّدهم بحجارة في يده. ظاهرة شاعت بسبب فقدان البعض صوابهم، وتشرّد الآلاف إثر ((عشريّة الدم )) – سنوات الإرهاب العشر – وما حلّ بالناس من غبن وأهوال.
مازالت تضحك لتعليق مصطفى يومذاك وهو يطمئنها:
- لاتخافي، نحن هنا في عصمة المجانين.. إدا دهمتنا الشرطة فسأتظاهر بالجنون وأضربك فينصرفون عنّا.. إنّهم لا يتدخّلون إلا إذا قبّلتك!
لأنها لم تميزّ يوماً جدّه من مزاحه ردّت محذّرة:
- إيّاك أن تفعل.. أجننت؟
أجاب ممازحاً:
-ما أدراكِ.. ربّما ما كنتُ عاقلاً! تدرين أن نسبة الجزائريين الذين يعانون من اضطربات نفسيّة أو عقليّة، تتجاوز حسب آخر الإحصاءات 10%. نحن نملك بدون منازع أكبر مؤسّسة لإنتاج الجنون. من منجزاتنا أن عدد مجانيننا بعد الاستقلال تجاوز عدد شهدائنا أثناء الثورة.
- معقول؟!
27
- إيه والله.. الرقم من مصادر طبيّة. ما الدي يُخرج المرء عن صوابه غير أن يرى لصوصاً فوق المحاسبة.. ينهبون ولا يشبعون، ويضعون أيديهم في جيبك، ويخطفون اللقمة من فمك، ولا يستحون! إنّه القهر والظلم و ((الحقرة)) ما أوصل الناس للجنون. إذا فقد الجزائري كرامته فقد صوابه، لأنه ليس مبرمجاً جينياً للتأقلم مع الإهانة، كيف تُريدين أن أتزّوج وأنجب أولاداً في عالم مختلٍّ كهذا؟
كانت تلك المرّة الوحيدة التي جاء بها على ذكر الزواج. صدّقت أنّه لهذا السبب لن يطلب يدها.
غادرت سريرها حتّى لاتترك غيوم الماضي تُفسد مزاجها.
بدأت صباحها بملعقة عسل دافئ. يجب ألّا يكون لها من شاغل إلّا صوتها. لسنوات كان هذا هاجس والدها الذي صان صوته، بقدر ماحرس صمتها. لذا أراد لها مهنة لا يُسمع لها فيها صوت، إلّا بين جدران الصفّ الأربعة.
أبهذا الصوت نفسه كانت تشرح لساعات قواعد النحو واللغة، وتلقّن التلاميذ المحفوظات، وتعيد وتكرّر لكل تلميذ على حدة ما لم يفهم؟ صوتٌ كان يقول كلمات من طباشير، تمحوها عن اللوح في آخر الدرس. اليوم كلّ نفسٍ في صوتها يوثّق ويحُفظ إلى الأبد على شريط مضغوط.
أوّل ما لقّنوها حماية صوتها من نزلات البرد، ومن التلوّث ومن دخان السجائر. وماذا عن الألم ووعكات القلب حين تغصّ بها الحنجرة، فيختنق صوتك رافضاً النطق؟
28
يوم تسجيل ألبومها، اعتذرت لمهندس الصوت، مطالبة بإعادة تسجيل تلك الأغنية مجدّداً. بعد المحاولة الثانية، نصحها أن تستسلم لأحاسيسها كما لو كانت تغنّي لنفسها، وألّا تقمع أيّ مشاعر حتّى لو كانت الرغبة في البكاء، مستشهداً بقصّة سيرج غانسبور)) في الثمانينيّات حين قال لزوجته النجمة جين بيركين: ((je suis venu te dire que je m'en vais)) فأجهشت جين بالبكاء. وماكانت تدري وهي تنتحب أنّه كان يسجّل بكاءها ،كي يرفقه بالأغنية التي ستحمل عنوان ماقاله لها ((جئت أخبرك أنّني راحل )).كان في الواقع إعلاناً حقيقيًّا لهجرانها!
أِمنَ النبل أن نوثّق دموع الآخرين في أغنية نتخلّى فيها عنهم؟ نحن نملك دموعنا لا دموع من أحبّونا.. أمّا هي فلا تملك حتّى دموعها. مايمنعها ليس خوفها من الإخفاق في بروفا البكاء،بل ما أورثوها من كبرياء في مواجهة الدموع.
ماكان جدّها ليتصوّرها يوماً واقفة خلف الميكروفون باكية، حتّى وإن كانت تؤدّي أكثر أغاني مروانة حزناً. قد يغفر لها الغناء، لكن لن يغفر لها البكاء، ففي مروانة، عن حياء، لايبكي الناس إلّا غناءً. يأتون الحياة وهم يغنّون، صرختهم الأولى بداية شجنٍ يستمرّ مدى العمر. فالحزن في جموحه يغادر مآقيهم ليتحوّل في حناجرهم مواويل. لذا، هم منذورون للفجائع الكبرى، فالعواطف العاديّة، كما الخسائر الصغرى، لاتصنع لديهم أغنية. في تطّرفه، يعطيك المرواني انطباعاً بلامبالاته بهموم الحياة. في الواقع هو يحوّل همّه الأكبر غناء، ما لا يغنّيه ليس همّه.. إنه يُهين كل ما لا يُغنيّه.
29
استعادت جأشها، وعاودت أداء تلك الأغنية نفسها التي غنّتها في أربعين أبيها. ماتوقّعت يومذاك أنّها تغنّي قدرها، فقد غنّاها قلبها عيسى الجرموني وأبوها وجدها ومغنّو الأوراس جميعهم، فلماذا حلّت لعنتها عليها وحدها، وإذا بالحياة تقلّد الأغنية، وتأخذ منها رجلين لا رجلاً واحداً!
ماكانت لتدري بقصة تلك الأغنية، لولا أنّ المؤرّخين وثّقوا تفاصيلها. لقلّة معرفتها باللهجة الشاويّة، غنّتها من دون أن تفهم تماماً كلماتها، لكنّ الألم تولىّ إخبارها بما لا تعلم.
لعلّ مروانة كانت تحتاج إلى فاجعة كبيرة تمنحها فرصة إهداء أغنية إلى آلهة الحزن تليق بحناجر أبنائها، وقلوبهم المولعة بقصص العشق المفضي إلى الموت.. فاستجابت الحياة لأمنيتها.
يُحكى أنّه ذاع صيت جمال إحدى الفلاّحات حتّى تجاوز حدود قريتها، فتقدّم لخطبتها أحد الباشاغات، لكنّها رفضته لأنها كانت تحب ابن عمّها. عندما علم الباشاغا بزواجها، استشاط غيظاً ولم يغفر لها أن تفضّل عليه راعياً. فدبّر مكيدة لزوجها وقتله. كانت حاملاً، فانتظر أن تضع مولودها، وتُنهي عدّتها، ثمّ عاود طلبها للزواج. وكانت قد أطلقت اسم زوجها على مولودها فردّت عليه ((إن كنتَ أخدت مني عيّاش الأوّل فإنّي نذرت حياتي لعيّاش الثاني))، فازداد حقده، وخيّرها بين أن تتزوجه أو يقتل وليدها، فأجابته بأنها لن تكون له مهما فعل.
ذات يوم، عادت من الحقل فلم تجد رضيعها، وبعد أن أعياها البحث، هرعت إلى المقبرة، فرأت تراباً طرياً لقبرٍ صغيرٍ، فأدركت أنه قبر ابنها، وراحت تنوح عند القبر و((تعدّد)) بالشاويّة بما يشبه الغناء((آااعياش يا ممّي)). فأقبل الناس عند سماعها تنادي((ياعيّاش
30
يا ابني)) يسألون ما الخطب، وما استطاعوا العودة بها، فلقد لزمت القبر الصغير وظلت تغنّي حتى لحقت بوليدها وزوجها. ففي مروانة، يُفتدي الراحلون بالغناء حتّى اللحاق بهم. ذلك أن لاوسط ولا اعتدال في طباع أبنائها، إنهم يمارسون كلّ شيء بلا رحمة.
أكثر مايُبكيها وهي تسجّل تلك الأغنية، إدراكها أن أمّها ستظلّ تستمع إلى هذا الشريط، برغم عدم فهمها للشاويّة، وغربتها عن هذا النوع من الغناء. فما عاد لها من عزاء إلا في نواح هذه الأغنية، التي أرادت لها الحياة أن تسمعها بصوت زوجها ثمّ ابنتها، مردّدة كلمات امرأة أخرى، هي أخت مصابها، مثلها، سرق منها الموت ابنها وزوجها.
***
عاد إلى البيت بعد انتهائه من عشاء عمل طويل.
كان متعباً من السفر والاجتماعات المتواصلة حتى المساء. انتهت اعماله تقريباً، لكنه يحتاج تمديد إقامته ليرتاح بعض الوقت في باريس.
في بيروت هو دوماً مزدحم بـ((الأصدقاء))، مُحاصر بحبّ الأقارب، مُجتاح...مُستباح. للوجاهة ضريبة وضعته دائماً في الواجهة.
عندما يشتاق إلى نفسه، يأتي إلى بيته الباريسي، يتمادى في عصيانه الاجتماعي. لا يردّ سوى على هاتف سكرتيرته. يحتاج كلّ شهر، إلى أن يسرق بضعة أيّام لممارسة المباهج التي سرقتها منه بيروت.
هنا يطالع الكتب التي لا وقت له لقرائتها. يستمع لفيفالدي، يبدأ نهاره بـ((الفصول الأربعة))، وينهيه بكليدرمان. يحبّ أن يختم
31
مساءَه بمقطوعات من العزف على البيانو. بالذات Adeline Ballade Pour. بإمكانه الاستسلام لسماعها طوال المساء. لكنّه الليلة على موعد مع شريطها الذي عثر عليه سائقه في معهد العالم العربي. استعدّ لسماعه بطقوس الموسيقى الكلاسيكيّة، رغم درايته أنّه قد يُرضي فضوله لا ذوقه.
راح يحشو غليونه صبراً وتأهّباً أثناء إنصاته إلى ذلك التمهيد الموسيقي.
انطلق صوتها من درجة مواربة للشجن. لم يدرك وهي تغنّي أمبتهجاً كان أو حزيناً، فتلك الأغنية لم تهزّ شيئاً فيه. الطرب في لسان العرب ((خفّة تعتري المرء من سرور أو حزن)). مشاعره كانت خارج هذه الأحاسيس. لكن موسيقاها علقت بسمعه كأغنية إيطاليّة تردّدها دون أن تفهم كلماتها، مراهناً أنّها برغم ذلك تعنيك أو تتوجّه إليك. أليس غريباً إصراره على قرابة ما، تجمعه بأغانٍ لا يحبّها ولا توافق في الواقع ذوقه!
ما الذي يريده منها؟ هذه الفتاة التي ليست أجمل من غيرها، والتي لا تهزّه أغنياتها. لعلّه يريد حالة الشغف التي سكنته مذ رآها. صخب العواطف الذي يسبق امتلاكه لامرأة. دوخة الحبّ.. وذلك الدوار الذي يحتاج إليه لمواصلة اشتهاء الحياة. لذا، لن يحتسيها دفعة واحدة. سيجعل الطريق إليها طويلاً. لقد انتظر شهراً ليراها مجدّداً في برنامج تلفزيوني، شهراً ليُلقي إليها بالطعم، الذي لايمكن لسمكة صغيرة مثلها إلّا أن تزدرده.
***
32
عندما أطّلت في ذلك البرنامج، مع الضيوف الثلاثة الذين شاركوها الإحتفاء بالحبّ، بدت كأنّ اختارها ليحتفي بها.
شيء فيها تغيّر مد طلّتها الأخيرة قبل شهر. إنها تبدو أبهى. لعلّه ثوبها الأسود الذي كانت ترتديه مع عقد طويل بصفّين من اللؤلؤ، منحها إطلالة تتجاوز سقف ميزانيّتها.
بدا الجوّ على البلاتو احتفالياً: قلوب حمراء، وسائد حمراء، ورود حمراء، علب وهدايا بشرائط حمراء. هل أجمل من الأسود لوناً يعقد عليه الأحمر قرانه في عيد الحبّ!
فكرة البرنامج كانت جمع أسماء غنّت الحبّ أو كتبته، وهي التي درّسته لتلاميذها ضمن المقرّرات المدرسيّة في النصوص الأدبّية والشعريّة، كان يجب أن تشارك بهذه الصفة لا غير.
هي لم تسمع بعيد الحبّ إلا مذ أصبحت تقيم في الشام. في مروانة، كان الحبّ يُقيم في بلاد أخرى، لهذا ما اعتادت أن تعايده، أو تنتظر هداياه.
كان موجودًا في أغاني أبيها لا في بيته، مسموحاً به للغرباء.. لا لأهله.
في البيت، كان ثمّة ((محبّة)) أي حرفان زائدان على الحبّ.
وبرغم ذلك، هي لا تصدّق هذه القلوب الحمراء من الساتان المحشوّة قطناً، والتي تقول ((I love you))، ولا تثق بوفاء الدببة المتعانقة التي تقول بالإنكليزية ((أشتاقك))، أو ((أنا مجنون بك)). جميعها دليل على حبّ غدا كاذباً لفرط ثرثرته، مفقوداً لفرط وجوده.
عادت وراجعت نفسها. لكأنّها لا تغفر للعشّاق سعادتهم ولو كذباً. وأين المشكل إن هم قالوا ((أحبّك)) بلغة غير لغتهم. وأين
33
الخطر في أن تتوحّد لغة العواطف، ويسير العشّاق خلف الألوية الحمراء للحبّ.
لا تريد أن يتحوّل الهدف من وجودها في البرنامج إلى إدانة عولمة المشاعر، عليها أن تكفّ عن أن تكون مدرّسة لغة عربيّة!
سألها مقدّمُ البرنامج بفرحة صحافي وقع على سؤال يربك ضيفه:
- هل يمكن لمن ليس في حياته حبّ أن يغنّي الحبّ؟
جاء جوابها هادئاً:
- وحده فاقد الحبّ جدير بأن يغنّيه.. الفنّ العظيم كالحبّ الكبير، يتغذّى من الحرمان.
بدت كما لو كانت تتكلّم بحياء عن الحبّ. هي تدري أنّ أهلها وتلاميذها ومصطفى وزوجته وكلّ مروانة والجزائر يتابعونها في هذه اللحظة، ولولا إحساسها بذلك لربّما قالت شيئاً آخر. لكّنها بدت صادقة في ما قالته على استحياء. الحياء نوع من أنواع الأناقة المفقودة. شيء من البهاء الغامض الذي ماعاد يُرى على وجوه الإناث.
وهي التي تنازل الإرهابيين بملء حنجرتها، عندما تتحدّث عن الحبّ تخفت طبقة صوتها حتّى درجة البوح، وحينذاك تصبح شهيّة، ويكتشف الآخرون وهم يستمعون إليها، تلك الحقيقة التي نسوها: بإمكان امرأة خجولة أن تكون مثيرة.
تدخل الشاعر معلّقاً على قولها:
-لا حب يتغذّى من الحرمان وحده، بل يتناوب الوصل والبعاد، كما في التنفّس. إنها حركة شهيق وزفير، يحتاج إليهما الحب لتفرغ وتمتلئ مجدّداً رئتاه. كلوح رخامي يحمله عمودان إن قرّبت أحدهما من الآخر كثيراً اختلّ التوازن، وإن باعدت بينهما كثيراً هوى اللوح.. إنّه فنّ المسافة!
34
هبّ الملحّن الكبير محتجاً:
-الحبّ تعتير.. لا شهيق ولا زفير. جيب لي مَرا بتحبّك لنفسك مو لَجيبك .. وتُنطرك مو تُنطر لَتبرم ظهرك ،ع أيامنا الحبّ عمليّة نصف عاطفي .. مَرا بتتجمّل لك ..تتغّج ..تتبرجّ ..لَتوَقّعك ،وبس تجنّ وتتزوّجها ماتعود تعرفها. مافي حبّ ،في صفقة حبّ ..يا زلمِه بشرفك تعرف مَرا بتِقبَل تتجوّز واحد معتّر لأنّا بتحبّو ؟!
بهت الجميع وموسيقارالحبّ يهاجم الحبّ في عيده ويتبرّأ منه .
كان قلباً مجروحاً ،ورجلاً مخدوعاً ،حضر ليُصفّي حساباته مع الحبّ .إنّه ينتمي الى العناصر غير المنضبطين في حزب العشّاق ،يُطلق النار كيفما اتّفق على النساء .اثناء دفاعه عن الحب ،لا ينتبه انه أفرغ رشّاشه فيه ..وأرداه .
توجّه مقدّم البرنامج إليها سائلاً:
-هل تعتقدين أنّ وسائل الآتّصال التكنولوجيّة الحديثة خدمت الحبّ ؟
- ربّما خدمت المحبّين ،لكنّها لم تخدم الحبّ .كان الحبّ أفضل حالاً يوم كان الحمام ساعي بريد يحمل رسائل العشّاق .كم من الأشواق اغتالها الجوّال وهو يقرّب المسافات ،نسيَ الناس تلك اللهفة التي كان العشّاق ينتظرون بها ساعي البريد ،وأيّ حدث جلل ان يخطّ المرء((أحبّك ))بيده. أيّ سعادة وأيّ مجازفة أن يحتفظ المرء برسالة حبّ الى آخر العمر.اليوم ،((أحبّك)) قابلة للمحو بكسبة زرّ.هي لا تعيش إلّا دقيقة ..ولا تكلّفك إلّا فلساً!
35
لا رغبة لها في أن تحكي كم يُمكن لكلمة ((أحبّك)) أن تكون أحياناً مكلفة،عندما تُكتب على ورقة .كذلك التلميذ الذي نقلت الصحافة الجزائريّة قبل سنتين قصّته .كان المسكين قد اقترف جرم كتابة ((أحبّك)) على ورقة ،ووضعها على طاولة زميلة له في الصفّ.وما إن وقع الإستاذ على الورقة ،حتّى ألغي الدرس وأعلن حالة استنفار بحثاً عن صاحب الرسالة .أمام إنكار الجميع أن يكونوا من كتبوها ،راح يودّي دور شرلوك هولمز مدقّقاً في أربعين نسخة لكلمة ((أحبّك))، طلب من التلاميذ كتابتها وإحضارها الى مكتبه لمقارنتها.
انتهى التدقيق المجهري بعثوره على الجاني ،الذي أصيب بحالة فزع بعد توبيخه وضربه في حضرة أترابه ،أمّا المدير فقد رفع سقف العقاب حدّ استدعاء أهله لإخبارهم أنّ ابنهم مطرود من المدرسة لسوء أخلاقه!
أثارت الحادثة يومذاك جدلاً لدى زملائها.جلّهم وافق الأستاذ في إدارته قضيّة ((الجرم)) الذي ارتكبه تلميذ لم يبلغ بعد سنّ الرشد العاطفي .أرادوه في الثانية عشرة من العمر ،عبرة لباقي التلاميذ منعاً لعدوى الانفلات الأخلاقي .
وحده مصطفى كان من رأيها .
قال بأسى :
-سيكون صعباً على هذا الفتى أو أترابه أن يكتبوا بعد اليوم هذه الكلمة ..أو أن يقولوها في حياتهم لأحد !
بعد أيّام ،حين نقلت الصحافة أخبارمذبحة بن طلحة التي نحر فيها الإرهابيّون 500 قروي ،علق مصطفى بحزن :
36
- من صفّ ذلك الأستاذ سيتخرّج فوج القتلة القادمين .إنّ اليد التي تُعاقَب لأنّها كتبت كلمة أحبّك إنّما هي يد أُعِدّت لإطلاق الرصاص .
لاحقاً ،قال لها مصطفى بجدّيّة كاذبة :
- إنّي أفكّر في الهجرة إلى أمريكا .
سألته مدهشة:
أميركا ..لماذا أميركا ؟
-لأنّه ،في استطلاع أخير ،جاء أنّ الأمريكي هو أكبر مستهلك لكلمة ((أحّبك)).تصوّري أنّه يلفظها بمعدّل ثلاث مرّات في اليوم ،كأنه يتناولها مع وجباته الثلاث.أريد أن أهاجر كي أسمعها ولو مرّة في حياتي .هنا قد يموت المرء ولا يسمعها حتّى أمّه برغم أنّ كلّ شيء يشي بحبّها له.لكنّها عندما تنطق تقول عكس ذلك !
واصل بنبرة مازحة :
- بإمكانك أن تجعليني أعدل عن الهجرة ،يكفي أن تقولي إنّك تحّبينني!
ضحكت لابتزازه العاطفي ،لكنّها طبعاً لم تقلها.
لو قالتها ،لربّما كانت الآن في معسكرات الاعتقال العاطفي. وبدل أن تُرزق ألبوماً، لكانت هناك تخدم أمّه وتربّي أولاده !
هل أحبّته حقاً؟
هي نفسها لا تدري .معظم الذين يعتقدون أنّهم يعيشون قصّة حبّ ،هم في الواقع يعيشون وهم الحب .
37
ترك لها مقدّم البرنامج قول كلمة الختام ،بعد أن شغلتها أفكارها عن المشاركة في نقاش احتّد بين أنصار عيد الحبّ ومهاجميه .قالت:
- يوم كان العشّاق يموتون عشقاً، ماكان للحبّ من عيد. اليوم أَوجد التجّار عيداً لتسويق الأوهام العاطفيّة، غير معنيّين بأنّهم بابتداع عيد للحبّ يُذكّرون غير العشاق بخساراتهم ،ويقاصصونهم بفرح الآخرين .إنّه في الواقع أكثر الأعياد تجنّياً!
علّق مقدّم البرنامج بدعابة تستدرجها لاعتراف ما:
- لكأنه كلام امرأة لن تحتفل اليوم بالعيد .
ردّت بالمزاح نفسه:
- الأعياد دوّارة ..عيد لك وعيد عليك . إنّ الذين يحتفلون اليوم بالحبّ ،قد يأتي العيد التالي وقد افترقوا .والذين يبكون اليوم لوعة وحدتهم، قد يكونون أطفال الحبّ المدلّلين في الأعياد المقبلة .علينا في الحالتين أن نستعدّ للاحتمال الآخر!
انتهى البرنامج ،ووقف الضيوف يواصلون نقاشاتهم محمّلين بما تلقّوا من باقات ورد .كلام الحبّ لا ينتهي . لكنّها كانت على عجل ،تهمُ بمغادرة الاستديو هرباً من أسئلة أيقظت مواجعها ،حين أمدّها مقدّم البرنامج بباقة ورد قال إنّ مُرسلها طلب ألّا تُقدّم إليها على الهواء .أمسكت بها مذهولة ،فلقد استوقفت تلك الباقة نظرها بغرابة تنسيقها ،حين رأتها في زاوية الهدايا ،من الواضح أنّ صاحبها أرادها فريدة وباهرة برفضٍ مُعلن لطفرة اللّون الأحمر في عيد الحبّ .لا تضمّ سوى أزهار توليب في غرابة لون مُشعّ بأمواج ضوئيّة تتراوح بين االبنفسجيّ والأسود .مصطفّة بحيث تبدو منتصبة كالعساكر،على
38
القدر نفسه من التفتّح الخجول الأوّل، متدرّجة في ثلاثة صفوف، يلفّ خصرها شريط عريض من الساتان الأحمر الفاخر.
فتحت بلهفة الفضول الظرف الصغير المُرفق بها، لم يكن على البطاقة سوى ثلاث كلمات ((الأسود يليق بك)). جمدت مكانها مذهولةً. كان في الجوّ شيء شبيه بإعلان حب، كإشعار باقتراب زوبعة عشقية. شيء لا اسم له كصاحب البطاقة، لكنه يُحدث فيها دواراً جميلاً لم تعهده. لاتدري ما الذي ما الذي يحدث لها. موسقى شبيهة بفالس تراقص روحها، انطلقت من مكان ما داخلها، وراحت تدور بها وتٌفقدها القدرة على التفكير المنطقيّ.
نزلت من السيّارة وكأنّها راقصة باليه تنتعل خفّين من الساتان، تمشي على رؤوس الأحلام التي أصبحت لها أقدام.
***
لو أنّ صحافياً أعاد عليها الآن الأسئلة نفسها، لقالت شيئاً آخر مخالفاً تماماً لما قالته قبل ساعة. ثلاث كلمات على بطاقة لاتحمل توقيعاً أوقعت بقناعاتها العاطفيّة.
اللحظة، هي تفضّل وهم الحبّ على اللاحبّ. ولا بأس أن تنضمّ إلى كتائب العشّاق المغفّلين الذين فتك بهم هذا الوهم. تريد أن تتناول من جرعات هذا الداء مايقتلها حقاً.. أو يحيُيها.
في الفندق، وضعت باقة الورد على الطاولة المستديرة، بحيث تراها أينما كانت. حاولت أن تخفّف من تسارع أحلامها، ورهان قلبها على بطاقة لا تحمل سوى ثلاث كلمات: ((الأسود يليق بكِ)).
39
ماتشعر به لا علاقة له بسلّة الورد. مهما تعّددت الكلمات والألوان، كانت جاهزة للتعثّر بأوّل حبّ تضعه الحياة اليوم تحديداً في طريقها. لكأنّ الأمر عدوى لا نجاة منها.
تأمّلت بعرفان تلك الورود الغريبة اللّون. لولاها لاغتالها اللّون الأحمر، كما تجنّى اليوم على الملايين ممّن لا حبّ في حياتهم.
تراك استمعت إلى حكايات الناي وأنين اغترابه، إنه يشكو ألم الفراق، (يقول):
((إنني مذ قُطعت من منبت الغاب لم ينطفئ بي هذا النواح،
لذا ترى الناس رجالاً ونساءً يبكون لبكائي
فكل إنسان أقام بعيداً عن أصله، يظل يبحث عن زمان وصله
إن صوت الناي نار لا هواء، فلا كان من لم تضطرم في قلبه هذه النار)).
مولانا جلال الدين الرومي
كان يحبّ الجاذبيّة الآسرة للبدايات، شرارة النظرة الأولى، شهقة الانخطاف الأوّل.
كان يحبّ الوقوع في الحبّ.
ما كان مولعاً بصيد النساء، بل برشف رحيق الحياة، وبذلك الفضول الجارف الذي يسبق الحبّ.
حدث أكثر من مرّة بعد ذلك، أن عاود مشاهدة تلك المقابلة، التي يحتفظ بها في مكتبه، لعلّه يفكّ شيفرة تلك الفتاة، أو سّر تعّلقه بها.
ليس جمالها ما يأسره، هي ليست جميلة حد فقدان رجل مثله صوابه، ولاهي أنيقة أناقة يمكن أن تنازل بها النساء من حوله. لعلّها ما كانت لتستوقف نظره لو صادفها. لكن كلماتها صادفت أذنه، وأوقعته في فتنة أنوثة ما خبر من قبل بهاء عنفوانها.
أفرغ غليونه وراح يحشوه بتأنً، كما يفعل عادة عندما تأخذه الأفكار.
44
هو لايّفكر أثناء التدخين، بل أثناء إعداد غليونه وحشوه. هكذا يعدّ لمشاريعه ولصفقاته. وهكذا يدير معاركه قبل أن يخوضها، لاعتقاده أنّ الاستعداد للفوز أولى مُتع الفائز.
أن تنتظر امرأة بالذات، خارج الزمن وخارج الحسابات، أن تنتظرها كما لو أنّه لا امرأة سواها على الأرض، ياللجهاد.. يا للنصر العظيم حين تفوز بها.
ثلاثة أشهر وهو يتقّدم نحوها بتأنٍّ كما على رقعة الشطرنج. تصلها باقات وروده إلى أيّ مسرح تغنّي عليه، وأيّ برنامج تطلّ فيه. كقنّاص يعرف كلّ شيء عن طريدته، كان مُلماً بأخبارها، بينما لا تعرف هي شيئاً عنه.
يعنيه فضولها، ترقّبها، حيرتها. يودّ أن يدخل حياتها علامة استفهام جميلة، تغدو مع الوقت علامة تعجّب.. فعلامة إعجاب! هكذا تُكتَب قصص الحبّ الكبيرة. كلّ مايأتي على عجل يمضي سريعاً، وكل ما نكتسبه بسرعة نخسره بسهولة. وهو بلغ من الحكمة عمراً، أصبحت فيه متعة الطريق تفوق متعة الوصول، وانتظار الأشياء أكثر شهوة من زهو امتلاكها.
كتب لها على البطاقة الثانية ((أملك كلّ الوقت)).
وعلى الثالثة ((احتفي بورود الانتظار)).
لعلّها أدركت أنّ عليها أن تنتظر أكثر، قبل أن تعرف من يقف وراء تلك الباقة نفسها، بكلمات مختلفة كلّ مرّة. كلمات مواربة البوح، تحفظ له مسافة أن يظلّ المشتهى.
الحبّ هو ذكاء المسافة. ألّا تقترب كثيراً فتُلغي اللهفة، ولا تبتعد طويلاً فتُنسَى. ألّا تضع حطبك دفعة واحدة في موقد من تُحبّ. أن تُبقيه مشتعلاً بتحريكك الحطب ليس أكثر، دون أن يلمح الآخر
45
يدك المحّركة لمشاعره ومسار قدره. أوه.. كم يُتقن لعبة نقل النار بين الحطب، وإنقاد الشعلة في اللحظة الأخيرة قبل أن ينطفئ الجمر بقليل.
ثلاث رسائل كافية لإشعال فتيلها. سيترك لها رقم هاتفه مع الباقة التالية, لكنّه حتماً لن يترك اسمه. سيطيل لعبة الغموض ما استطاع ليُشعل شغفها بما لاتعرف عنه. الغموض مصمّم أزياء انتقائيّ، لا يضع توقيعه إلّا على تفاصيل الكبار.
لم تتجاوز كلماته لها ثلاثاً في كل بطاقة. كلامه أغلى من أن يملأ بطاقات تُرسل في المناسبات، وهي لا تعرف هذا بعد، ولا أنّ اللغة هي بعض ما أوقعه في شراكها. معها يتوقّع جولات لغويّة على علوّ شاهق. هذه المتعة بالذات هي التي يفتقدها مع سواها، يريد شريكاً لجولة كرة طاولة، تتطاير فيها الجمل فيهبّ لالتقاطها والردّ عليها. النساء من حوله لا جولات لهنّ خارج السرير.
غادر البيت مشياً نحو غابة بولونيا. اعتاد أن يمشي طويلاً في نهاية اليوم أثناء مواصلة سيره في أفكاره، تارة نحو الذكريات.. وأخرى صوب المستقبل.
هو دائماً على أهبة مشروع، أو خارج لتوّه من ذكرى. يمارس رياضة المشي السريع في زمن مفتوح بين طفولته العاديّة في بيروت ونجاحاته الخارقة في كبرى عواصم العالم.
إنجازه الأكبر ماكان في بلوغه تلك المكاسب، بل في الطريق التي سلكها لبلوغها.
كان مولعاً بالأقدار الكبيرة. تبهره السير الذاتيّة لرجالات صنعوا أقدارهم. وكان صانعاً ماهراً للأحلام الخرافيّة. يكفي أن يحلم لتصادق الحياة على أحلامه. قد يبدو في لحظات نادرة متواضعاً، لكن أحلامه
46
لا تعرف التواضع. يمشي.. وأثناء ذلك يحلم. يتأمّل الأشجار المتعانقة على طريقه بأشكالها المختلفة، والبطّ يتزلّج بأناقة على الضفاف الهادئة لبحيرة بولونيا.
كثيراً ماتمنّى لو كان شاعراً أو كاتباً ليصف انبهاره بهدا المكان الذي يتردد إليه منذ أكثر من عشر سنين. لايدري هل تنقصه الموهبة أو الشجاعة ليصبح كاتباً، فهو ليس خرّيج الجامعات بل خرّيج الحياة. لذا لم يأخذ الشهادات يوماً على محمل الجدّ.
ماعاد الأمر يزعجه. حُلّت عقدته مذ تفوّق بحكمته ودكائه على طاقم المستشارين والمساعدين العاملين في شركاته. حدث أكثر من مرة أن أنقذ أعماله من الإفلاس بمهاراته لا بشهاداتهم.
مايحسد البعض عليه حقاً هو الثقافة. لذا، كان ينهل منها بشغف وفضول معرفيّ، ذاهباً مع العمر نحو أرقاها وأعمقها، بعد ما لم يعد يعنيه إبهار أحد.. بل إمتاع نفسه.
انقضت ثلاثة أسابيع قبل أن تأتي أوّل مناسبة. حفل علم أنها ستشارك فيه مع مجموعة من المطربين في سورية. هذه المرّة سيلقي لموقدها بما سيشعلها من حطب لأيام، لكنه لن يستعمل سوى عود ثقاب واحد.
كتب على بطاقة أرقام هاتفه فحسب، ووضعها في الظرف الصغير المرفق بالباقة نفسها التي اعتاد أن يرسلها إليها. طلب إرسال الباقة مع سائق إلى الشام. كان عليه أن يقصد بنفسه بائع الورود، وأن يتابع كل التفاصيل. لو كان في باريس لكلّف سكرتيرته الفرنسيّة بذلك، في بيروت لا يمكنه أن يأتمن أحداً على سرّ. هذه مدينة كلّ واحد فيها يدير وكالة أنباء.
47
ثلاث ساعات وتصلها البطاقة، تماماً بتوقيت ختام الحفل. إنها الساعات الأكثر توتراً وجمالاً في أي قصة حب، التي تسبق الإعلان ببدء حالة الجنون العشقي. هذه المرّة رفع سقف فضولها العاطفي بثمانية أرقام ليست مُرفقة باسم. كان لايتوقف عن استراق النظر إلى ساعته. ابتداءً من الساعة العاشرة، يمكن للهاتف في أي لحظة أن يرن.. وتكون هي على الخط. ففي كل امرأة تنام قطة يقتلها الفضول.
أطال البقاء في المكتب، حتى لا يفاجئه الهاتف وهو مع زوجته. ثمّ، عند منتصف الليل قرّر العودة إلى البيت، لكنه وضع هاتفه على الصامت كي يأخد علماً باتّصالها. تفقّد هاتفه قبل الخلود إلى النوم، دون جدوى. توقّع أن يشهق قلبها حين ترى رقمه، فتسارع إلى طلبه. لكنها لم تفعل، ولم يجد عذراً لعدم اتّصالها، فقد تأكّد من وصول السائق.
شعر أنّها هزمته حتّى من قبل بدء الجولة. كان نومه مضطرباً، نام عارياً من صوتها.
***
إنّها الحياة تتحيّن فرص إدهاشك.
لكأنّ هذا الرجل قرينها، أيكون جنّياً كي يعرف عنوان كلّ مكان تظهر فيه.. أو لعلّه مجنون؟ لكنّ لغته أرقى من أن تشي بذلك.
أحاسيس جارفة ومتناقضة انتابتها، وهي ترى رقمه المكتوب، دون أيّ كلمة مرفقة به.
تردّدت في طلبه مساءً. لايليق بفتاة أن تتّصل ليلاً برجل غريب. لكنّها كانت على عجل أن يأتي الصباح. قلبها يرى في أرقام هاتفه
48
إشارة مشفّرة للحبّ يستعجل فكّها. قلبها يخفق، قلبها أحمق يقول ((قومي واطلبيه))، وعقلها أحمق آخر يردّد ((عيب.. انتظرى غداً !)).
قاومت الأرق، ثم صباحاً، قاومت لهفتها وفضولها، في انتظار الساعة التاسعة، الوقت الذي بدا لها مناسباً للاتّصال.
كان رقماً من لبنان، ولا فرق في التوقيت إذاً. طلبته دون أن تدري كم بإمكان رقم هاتفي أن يعبث بأقدارنا.
ارتجف صوتها كما يوم جرّبته لأوّل مرّة قبل أن تغنّي:
-ألو..
ردّ صوت رجل على الطرف الآخر:
-أهلاً.
ساد بينهما للحظات صمت البدايات. قال فاتحاً باب الكلام:
-سعيد بالتحدّث إليك..
وجد نفسه يواصل:
-كنت أستعجل هذه اللحظة.
ردّت بنبرة لاتخلو من الدعابة في إشارة إلى بطاقته السابقة:
-ظننتك تملك كلّ الوقت!
- أن أملك الوقت لايعني أني أملك الصبر..
علّقت بالدعابة نفسها:
- أمّا أنا فطوّعتني الحياة.. لا أكثر صبراً من الأسود!
أُسقط بيده. ما حسب أنّ الجولة معها ستبدأ على هذا العلوّ الشاهق. أمّا هي فما ظنت أنها ستخفي ارتباكها بالمزاح. ليس هذا ما تمنّت أن تقوله.
قالت مستدركة:
-شكراً على الورود... أسعدتني التفاتتك كثيراً.
49
أجاب:
- مذ أوّل برنامج شاهدتك فيه وأنا أودّ أن أبدي لك إعجابي.
سألته:
- أيّ برنامج تعني؟ تبدو متابعاً جيّداً للبرامج التلفزيونيّة!
في ظروف أخرى كان سيكون له ردّ فعل آخر، لكنّه وجد لها عذراً. هي لا تعرف من يكون، ثمّ لقد وصلتها منه ورود في أكثر من ظهور تلفزيوني، وربّما ظنّت أن لاشغل له سوى الجلوس أمام شاشة التلفزيون.
ردّ:
- كنت أقصد المقابلة التي أجريتها في نهاية ديسمبر.. أحببت حديثك.
علّقت ممازحة:
ظننتك أحببت حدادي حين كتبت لي ((الأسود يليق بك)).
- ربّما كان عليّ أن أقول إنك تليقين به.. الأسود ياسيدتي يختار سادته.
لم تجد ماتردّ به. هكذا هم المشارقة، لا يمكن أحداً أن يجاريهم في انتقاء كلماتهم عند الحديث مع امرأة. ما كان من اللائق أن تسأله عن جنسيته. طرحت سؤالها بصيغة أخرى:
- هل تقيم في بيروت؟
- نعم
- أنت محظوظ .. أحبّ بيروت كثيراً.
ردّ:
- بيروت تحبّك.. لقد خصّص لك إعلامها استقبالاً جميلاً.
- صحيح.. أنا مَدينة لها بانطلاقتي.
50
علّق:
- لعلكّ يوماً تكونين مَدينة لها بلقائي.
تركت كلماته بينهما شيئاً من الصمت. شعر بأنّ عليه إلّا يطيل المكالمة الأولى. قال منهياً الاتّصال:
- رقمي معك.. يُسعدني سماعك.
باغتها، لم يترك لها فرصة أن تضيف شيئاً. غادرها في عّز فضولها.
أغلق الجولة على جملة ((يسعدني سماعك)).
احتفظ لنفسه بما تمنّى لو قاله لها ((أتعبتني قبل أن أسمع بك.. وسأتعب لأننّي لا أريد أن أسمع سواكِ)).
بقي على جوع إليها. لكنّه أبقاها ظمأى، في هذه المرحلة يحتاج الحبّ إلى أن يقتات من تعطّشها لمعرفة المزيد عنها، وإلاّ انطفأ وهج الشعلة بينهما، فلا بأس أن ينتظر. خبرته تقول إنها ستعاود الاتصال به في حدود يومين. هذا أقصى حد عرفه للصبر النسائي.. إلا إذا زايدت عليه مكابرة، وصدق قولها ألّا أطول صبراً من الأسود!
بعد انقضاء ثلاثة أيّام دون أن يأتيه اتّصال منها، بدأ يشكّ في نظريّاته. في جميع الحالات، هو لن يطلبها، وخاصّة أنّها اتصلت به من رقم أرضي قد لايكون رقمها الخاصّ.
على الرغم من انشغاله الدائم، ما كان يفارقه هاجس انتظار مكالمتها. في اليوم الخامس، بدأ يساوره من أن تتوقّف قصّته معها هنا. إنّها فتاة عنيدة وعصّية، قد لا ترى مبرّراً لمعاودة الاتّصال به، وعندئذ، لن يكون من اللائق أن يواصل إرسال الورود إليها. يخشى أن تكون اعتبرته مجّرد معجب لايستحق أكثر من مكالمة واحدة.
51
بدأ يخطط لمواجهة الموقف الجديد عندما فاجأه هاتفها في صباح اليوم السادس.
-أهلاً، صباح الخير.
بمكر رجولة طاعنة في ترويض النساء، لم يُبد لها سعادته العارمة بسماعها، ولا سألها لماذا تأخّرت إلى هذا اليوم. من المفترض أنّه ((يملك كلّ الوقت)). هذه المّرة استعمل معها اللامبالاة، إنّه سلاح يفتك دائماً بغرور المرأة، محولاً نحوها أسئلة الشكّ. تبادل معها كلمات مجاملة، سألها عن أخبارها، لكنّه لم يمنحها الوقت لتسأله عن اسمه. أعطاها الإحساس بأنّه في اجتماع. ثم ودّعها قائلاً ((أسعدني سماعك)). تعبير ملتبس يُقال عن حبّ.. كما عن محبّة.
استعاد عافيته وهو يضع السمّاعة.
لقد خطا خطوة إلى الوراء في هذه المكالمة، كما ليقاصصها دون أن تدري لماذا، واثقاً أنّها الخطوة التي ستقفز بقصّتهما خطوات إلى الأمام.. إنه يراقصها التانغو!
طالما آمن بأنّ الانوثة إيقاع.
هذه المرأة تراقص روحه. كلامها مزيج من الإغراء والعنف والأنفة. إنّها سيّدة التانغو. حتّى الأسود الذي ترتديه خُلق لهذه الرقصة: رقصة الثأر.
ما كان لهذه التفاصيل أن تفوت رجلاً اغترب نصف قرن في أميركا اللاتينيّة ،ومازال في سره يُطلق على كلّ امرأة اسم رقصة.. أو مقطوعة موسيقيّة.
***
52
كلّ الفرسان من حولها يمتطون جياداً خشبيّة. هذا ما اكتشفته متأخّرة. لكن قلبها يقول إنّ هذا الرجل لايُشبههم. ربما لم يكن أفضل منهم، هي لاتدري بعد. ماتدريه أنّه يختلف عنهم. إّنه لا يشبه أحداً. يختار وروداً غريبة اللون، لاتشبه وروداً رأتها من قبل، مرفقة بها كلمات ماقالها أحد قبله.
غموضه، إيجازه، طريقته المبتكرة في مطاردتها، في مقاربتها، ماعهدتها في رجل.
برغم ذلك، هي تحافظ على مسافة الأمان. على لهفتها إليه تبطئ السير نحوه، فما أسرعت الخطى نحو رجل إّلا خانها رهانها.
حدث أن حاولت أن تُطبّق إحدى الطرق الحديثة في التعليم، التي تنصح بها مدارس علم النفس المعاصر، فتمنح التلاميذ منذ بدء العام الدراسي نقاطاً عالية، كي تحفزهم على الحفاظ على تلك العلامة، بدل أن تعطيهم العلامة التي لا يستحقّونها، فتفقد حماستهم للتحسّن.
أي حماقة تضعي أعلى علامة لرجل قبل امتحانه، مراهنةً على أنّك، بتجميل عيوبه، ستكسبين رهان تحويله إلى فارس زمانه.
لن تقع في هذا الخطأ مجّدداً. على هذا الرجل أن يشقى لينال علاماته.
كانت تفكر بمنطق المعلّمة، وكان القدر يقع على قفاه من الضحك، وهو يسترق السمع إليها. هي لاتدري بعد، أنّ هذا الرجل جاء ليعيدها إلى مقاعد الدراسة!
***
53
بعد مكالمتين، فازت بمعرفة اسمه الصغير، لكنّها اعتبرت فوزها كبيراً.
قبله، كان هاتفها جهازاً، بمجيئه أصبح رجلاً، وكان رقماً فغدا اسماً. اسم هاتفها ((طلال)). اسم سرّي، وحدها تعرف به.
طلال اسم رجل يقيم في سماعتها، لكن كلماته تنتشر في حياتها مع الهواء.
رجل لاتعرفه إلاّ قليلاً.. ويعرفها كثيراً. أدخلها في حالة دوار عشقيّ يصعب الخروج منها. أسكنها في مساحة وسطيّة بين باقتين وهاتفين، على حافة حرائق الانتظار.
مكالمة بعد أخرى، كان يراها تزداد تعلّقاً بما ترك لها من إضاءات وسط أسرار عتمته، وها هي ذي تترقّب صوته، تلومه على انقطاعه، تحتفي بعودته، تلاحق هواتفه مداً وجزراً.
أصبح لها عليه حقّ الحبّ، وله واجب العاشق في الاطمئنان عليها، والاطّلاع على برنامجها اليومّي، من دون أن يبادر أحدهما بقول كلمة حبّ للآخر.
استسلم لعادة سماعها يومياً. كان يهاتفها بين المطارات والاجتماعات، أو بين المكتب والبيت، أثناء وجوده في السيارة.
كانت تتفتّح كزنبقة مائيّة ظهرت فجأة في بركة المياه الآسنة لحياته. وحين عرضت عليه أن يلتقيا، قرّر أن يضعها أمام امتحان شيطاني قبل أن يسلّم إليها قلبه.
ذلك أنّه كان دائم الشكّ في كلّ من يدخل حياته المهنية أو العاطفيّة. حذر بحكم ثرائه، لاعتقاده أنّ أصحاب جيبه، يفوقون عدد أصدقائه، وأنّ السحر الساطع للمال، كثيراً ما غّطى على سحره الشخصي.
54
لعلّها فرصة، أن يختبر في امرأة لاتعرفه، حضوره العاري من أبّهة الجاه، فبريق الثراء حّوله إلى بؤرة إشعاع يجذب ضوؤها الناس إليه، فيبدو حيث حلّ جميلاً بما يملك.. لا بما هو.
حين أخبرته أنّها ستقيم حفلاً في باريس، عرض عليها أن يلتقيا هناك، متذرّعاً بكونها مشهورة في بيروت، ولن يكون سهلاً ان يلتقيا في مدينة عربية، مدّعياً أنّ سفرها يوافق وجوده في أوروبا.
وجدت في عرضه حرصاً منه على صيتها، وأكبرت فيه ذلك. بدأت تحلم بلحظة لقائها به، فهي لم تزر باريس إلا مرّة واحدة مع والدها وأخيها قبل سنوات، يوم كان أحد أعمامها يُقيم هناك. ربما أشفق الله عليها من عودتها إلى باريس لتواجه وحدها وجع ذكراهما، فواساها بأن بعث لها بهذا الحب.
لم تلتق من قبل مع رجل في مدينة تتنفّس الحرِّيّة، ولا كانت يوماً حرّة. لعلها فرصتها لكسر قيودها، واكتشاف العالم. عادت وصحّحت نفسها: اكتشاف العالم لا الانكشاف به، فكلّ ماتتمنّاه هو جلسة جميلة مع هذا الرجل، الذي لوّن حياتها بالورود، والكلمات التي لاتدري من أين يقطفها لها، كلّ مرّة.
قضت يوماً كاملاً تجوب المحالّ مع نجلاء، بحثاً عن ثياب أنيقة، تليق بإقامتها في باريس وبذلك اللقاء. قالت نجلاء متذمّرة في آخر المطاف:
- الناس يقصدون باريس للتسوّق وأنت تتسوقين قبل الذهاب إلى هناك.. هلكتني يا إختي مافي شي عاجبك!
أجابت مازحة:
- ما أدراك.. ربما لن يترك لي الحب في باريس من وقت!
55
لا تريد إخبارها أنها ستتقاضى مبلغاً رمزياً، نظراً إلى كون الجالية الجزائريّة هي التي تنظّم الحفل. في الواقع، دون أن تعي ذلك، تأبى أن تنفق على شراء ثوب، مبلغاً يتجاوز ما كانت تتقاضاه في شهر، يوم كانت مدرّسة. مازال مبلغ 170 دولاراً يمثّل بالنسبة إليها حاجزاً نفسياً عليها أن تتخطّاه.
ماكان لها من شاغل سوى حقائب الحلم، وحين غدت أحلامها جاهزة للإقلاع، وجاء وقت التفاصيل الصغيرة، هاتفها سائلاً:
- أيّ ساعة تصل طائرتك؟
قالت:
- الساعة السادسة بتوقيت باريس.
-على أي مطار؟
-مطار شارل ديغول.
-حسناً.. ثمّة رحلات من لندن كلّ ساعة تقريباً. سأغادر لندن بحين أصل قبلك وأنتظرك هناك عند مخرج الركّاب القادمين.
واصل بعد شيء من الصمت:
-أتمنّى أن تتعرّفي إليّ وسط حشود المسافرين.
ردّت:
- في جميع الحالات، لن يضيّع أحدنا الآخر، فأنت تعرفني أليس كذلك؟
واصلت ممازحة:
- أو احمل باقة الورد تلك كي أستدلّ إليك!
ردّ بنبرة جادة:
- أن لم يدلّك قلبك عليَ فلن تريني أبداً.. وهذه القصّة لا تستحقّ عندئد أن تُعاش!
56
فاجأها بمنطق التحدّي العاطفي الظالم لامرأة لم تره من قبل، ولا تعرف في النهاية شيئاً عنه.
ماتوقّعت إلى أيّ حدّ كان جاداً. قرّرت أن ترفع التحدي.
قالت وهي تُنهي المكالمة ضاحكة:
-فليكن.. موعدنا في مطار شارل ديغول!
لم تكن تدري أيّ فخ ينصب لها. فلقد أوهمها أنه يحدّثها من لندن. كيف لها أن تتّوقع وهو يطلبها من رقم فرنسيّ، أنّه في الواقع لم يغادر وأنّه يحدّثها من.. بيروت!
هو يعرف الآن عن تفاصيل رحلتها ما يكفي ليأخد الطائرة نفسها، ويسافر معها في مقصورة الدرجة الأولى. فهي التي أخبرته سابقاً أنّها ستسافر من بيروت، لعدم وجود رحلات في ذلك التاريخ من الشام، وأنّه لولا سفرها على الدرجة الأولى لما وجدت مكاناً في تلك الطائرة، معلّقة:
- معقول؟ ثلاث طائرات يومياً إلى باريس ولا تضمن وجود مكان فيها!
رّد:
- طبعاً. إنه موسم الأعياد.
***
أقسى الذكريات وأطرفها، تلك التي عاشها يومذاك وهو جالس لمّدة أربع ساعات على بعد خطوات من انشغالها عنه.. بالرجل الذي كانت تتهّيأ للقائه!
57
كانت على قرب مقعدين منه، لكن أبعد من يوم شاهدها على شاشة التلفزيون. إنها أبهى من الشاشة لكنّها ليست طويلة كما كانت تبدو، وهذه أوّل مرّة يراها في معطف أسود. معطف أنيق دون بهرجة، بحزام مربوط على جنب، يزينه شعرها المنسدل على كتفيها. ناولت المضيفة معطفها، فبدا له جسدها لأوّل مرّة عن قرب. هو الآن على مرمى يده، وملء نظره. كان يمكن أن يقف ويسلم عليها، أن يرفع خصلة الشعر عن جبينها ويقول ((مرحباً هالة.. هذا أنا)). غير أنّه أحبّ دور الرجل الذي لاتراه.. ولايرى سواها.
تأمّلها وهي تطالع الصحف، وهي لا تأكل إلّا قليلاً مما قُدّم لها من مأكولات. كأنّها وُلدت أميرة. لا أشهى من امرأة تجلس في الدرجة الأولى، وتترفع عن الانهماك في الأكل. الناس يفعلون ذلك عادة لقتل الوقت، ولإبعاد التفكير وهم في الجو في احتمال الموت، لذلك تتنافس شركات الطيران لفتح شهيتنا على كل المباهج، كي ننسى أننا مجرد ريشة ف الهواء، إلاّ إذا كانت المباهج التي تنتظرنا عند الوصول أشهى مايُعرض علينا، عنذئذ فقط نزهد في كل شيء بانتظار لحظة الهبوط. تماماً كما يحدث لها الآن.
إنه استخفاف المكان بالزمان. هي تستجعل الوصول بعد أربع ساعات إلى رجل يجلس بمحاذاتها ولا تراه!
أضحكه فشلها في معرفة طريقة استعمال سمّاعات الموسيقى، أو طريقة تغيير الشاشة المقابلة لها، والتي كانت مثبتّة على بثّ مسار الطائرة والوقت الباقي للوصول. من الواضح أنّها لم تسافر كثيراً.
كان بإمكانه، تمادياً في عبثيّة الموقف، أن يتطوّع لمساعدتها. لكنّه قرّر ألّا يفعل حتّى لا يفسد للمكان خديعته.
58
قبل الوصول بقليل، وقفت ((النجمة)) وأخذت من حقيبتها محفظة صغيرة وقصدت الحمّام. حتماً ذهبت لتتفقّد زينتها، فقد عادت بإشراقة واضحة، جدّدت حمرتها وسّرحت شعرها على جنب.
ألقت وميض ابتساماتها على الركّاب، كتلك التي يرمي بها ((النجوم)) على العامة من باب المجاملة. لم يلتقط الابتسامة، تركها تسقط أرضاً. مات فرحه وهو يراها تستعجل النزول للقاء رجل سواه.
عندما حطّت الطائرة، تركها تسبقه إلى مغادرتها. وجد نفسه خلفها ببضعة ركاب. لكنه أنهى إجراءاته قبلها لحيازته جواز سفر أجنبياً وسفره دون أمتعة عدا حقيبة يد، ما أتاح له الخروج وانتظارها مع جموع المستقبلين.
ازدحام.. وأحلام تتهشم بين الأقدام. أمواج من البشر القادمين والمغادرين، وهو المغادر من قبل أن يصل، لكأنّه جاء ليغادر.
راح يتابع حيرتها أمام وجوه الرجال وهيئاتهم. تأمّلها من بعيد وقد استوقف نظرها رجل تمنّت لو كان هو. بادلها الرجل النظرات عندما رآها تحدّق فيه. لكن قبل أن تتوجّه نحوه، قادها حدسها إلى خيار خاطئ آخر.. بالمعايير الجماليّة ذاتها.
أذاً هكذا تمنّته أن يكون، أو هكذا توقعته.. عربيّ أربعيني.. وسيم يسحب حقيبة جلدّية سوداء خفيفة. أو مثل الآخر يسافر بدون أمتعة، سوى بذلة يحملها بيده في غلاف جلدي.. وبيده الأخرى يجرّ حقيبة رجل أعمال.
على نصف خطوة منه كانت.. دون أن تبلغه.
59
لم يحاول أن يقف في حيّز نظرها، عساه يساعدها على اجتياز الامتحان في اللحظة الأخيرة.
لعبة خطيرة تلك التي اختارها لامتحانها. هي هنا أمامه، هل الأهم الإمساك بها.. أم التمسّك بقراره؟
حدسه كان يقينه، هي لن تتعرف إليه. ما كان لها اصلاً من عينين إلا لغيره من الرجال. قرّر أن ينسحب أمام أوّل خطأ، فهو لا يتقّبل الهزيمة، ولا يرضى أن يُذلُ ولو أمام نفسه.
في الوقع، كان بإمكانه أن ينصرف حال نزوله من الطائرة، فالأمور قد حُسمت قبل الوصول. لكن ما أراد أن يعرفه، هو كيف تمنّته أن يكون. أراد أن يرى المسافة الحقيقيّة بينه وبين أحلامها. مايعريّه منه المال.. عندما تساويه الفرص بباقي الرجال!
ما كاد بهو المطار يفرغ في انتظار وصول الرحلة القادمة، حتّى رآها تغادر المطار خائبة. عند الحد الفاصل بين الفرصة وضياعها.. ضاع منها.
طلب سائقه على الهاتف. لمحها من زجاج سيّارته تنتظر دورها أمام محطة التاكسي. تركها للمطر. ابتسم بمكر. قرّر لحظتذاك أن يثأر لذلك الخذلان العاطفي بموعدٍ لن ترى فيه سواه.
في الصباح، عندما استيقظ، لم ينس أن يهاتف معهد العالم العربي، منتحلاً صفة صحافي، سائلاً عن عنوان إقامتها.
سيواصل مفاجأتها. لكن بإشعارها بعد الآن أنها خسرته.
***
60
ماتوقّعَت كميناً محكماً كهذا. كيف لها أن تتعرَف إليه في مطار؟
ألم يجد مكاناً أقلّ ازدحاماً؟!
إنها لعبة غير نزيهة، مادام وحده أحد الطرفين يعرف الآخر. ثمّ .. أما كان يمكن أن يكسر قواعد اللعبة في اللحظة الأخيرة معلناً أنه هزمها؟ أي انتصار هذا الذي يخسر فيه موعداً انتظره طويلاً!
عليها الآن بعد الترقّب المبهج، أن تتأقلم مع الغياب الموجع. كانت تحتاج إليه من أجل كلّ الأفراح التي منّت بها نفسها، والمباهج التي خالت أنّ القدر سيهديها إليها أخيراً. وأيضاً لمواجهة انكسارات الروح، في مدينة زارتها قبل خمس سنوات سعيدة، وتعود إليها وحيدة. حمدت الله أن يكون عمّها الذي استقبلهم هي ووالدها وعلاء آنداك في بيته قد ترك باريس وعاد بعد تقاعده للعيش في الجزائر.
لو أنّه في باريس، لكان أفسد عليها حفلها بوعيده، كما في الجزائر، متّهماً إياها بتدنيس شرف العائلة، لكونها ((لم تجد رجلاً يتحكّم فيها)). كأنّما الموت غنيمة حرّيّة، سعِدت بالفوز بها حين فقدت أغلى الناس عليها.
لو كان أكثر حنواً وتفهّماً، لربما بقيت في الجزائر.. لكنْ، كثيرٌ عليها أن تُخوض معارك حتّى ضدّ أهلها.
في الثمانينات، قصد والدها حلب لدراسة الموسيقى، فعاد منها بعد سنتين وكأنه تخرّج من مدرسة الحياة. أمّا عمها فكان قد سافر في السبعينيات للعمل في فرنسا، وعندما عاد إلى الجزائر ليتقاعد، بدا كأنّ كلّ تلك السنين في أوروبا لم تترك أثراً في عقليّته.
61
فجأة طالت لحيته، وتغيّرت لغته، واعتمد لباساً يقارب زيّ الأفغان، وأصبح لا يتردّد إلى بيتهم. ودون أن يعلن ذلك، كان واضحاً أنه رأى في احتراف أخيه للغناء ارتكاباً لفعل مستهجن يقارب الحرام.
في آخر زيارة لهم، لم يمكث للعشاء. كان قد حضر ليأخذ من أبيها تسجيلات يُنشد فيها والده ابتهالات دينيّة في إحدى المناسبات، ومضى.
كان المطربون على أيّام جدّها منشدين، وأبناء طرق وزوايا دينيّة. وكانوا ثوّاراً أيضاً ومجاهدين، نجا بعضهم وسقط آخرون، كأحد أبناء مشيخة الزاوية المختاريّة، الذي اكتُشف أمره. كان عازف كمنجة ويهرّب وثائق الثورة بإلصاقها في جوف الكمنجة. سمعت القصّة من جدّها، الرجل الذي أهدى لها طفولة سعيدة، دون أن يسعى حقاً لذلك، فقط منحها حظّ التردّد إليه في بيته على ربوة عند سفوح الأوراس.
كان جدّها بسيطاً, منسوب حكمته أعلى من منسوب حصاده, زاهداً في بهارج الحياة و قشورها. يحيا في تعايش سلمي مع الطبيعة ، يحضر الاعراس , يستمع بالولائم, يننشد مع المنشدين, ويغنّي مع المغنّين ما يحفظ من التراث البربري الشاوي. لكنّه لا يقبل مالاً من أحد , ولا حتّى من أبنائه . يبيع عند الحاجة رأساً أو رأسين من ماشيته . كلّ ما يحتاج اليه يوجد في مزرعته . و ما كان يحتاج للكثير. عاش متصوّفاً على طريقته ، لم يستهلك يوماً بذلات ولا ربطات عنق ولا احذية جديدة , ولا حتّى ادوية.
عبر الحياة ناصع البياض, من برنسه الأبيض إلى كفنه الأبيض. سمعته يقول يوماً لوالدها في جلسة احتدّ فيها النقاش (( لمّا تموت
62
و عندك مليون في البانك وحدك على بالك بيه .. لكن كي تكون بلا كرامة الناس الكلّ على بالهم بيك .. صيتك اللّي يعيش مبعدك مش جيبك))
ما كان لجدّها من جيب ، هو لا يحتفظ بشيء لنفسه فما حاجته إليه؟ في بيته لا ينام إلا الضيوف ، يستبقيهم ثلاثة أيام حسب أصول الضيافة ، وفي اليوم الثالث يُقسم ألا يغادروا بيته الا محمّلين بالسمن و الفريك والكسكسي . ذات مرة , احتجّت زوجته لأنه أعطى الضيوف جلّ مؤونتهم . ردّ عليها (( يا مرا .. الكرم يغطّي العيوب .. يمكن شافوا منّا شيء ما شفناهاش .. خلّينا نستر حالنا بالجود )).
كان من (( أولاد السلطان )) الذين يقال عند ذكرهم (( سلاطين و ما ملكوا )) . لسخائهم ، لم يُتوّجوا ، تنازلوا عن جاه الحكم ليسودوا بجاه الكرم ، هم سلاطين بما وهبوا لا بما كسبوا . على حاجتهم يغدقون حتّى ليبدو لمن يزورهم أنهم أثرى منه. لذا,عندما سقطت قسنطينة ، لجأ أحمد باي إليهم، فقد كان باياً في ضيافة بايات ، وفارساً في حماية ارض هي حصن طبيعيّ، تأبى ان تُسلّم من يلوذ بها . فلتلك الأرض أخلاق عربيّة، انصهرت في وجدان الشاوية ، وجعلت منهم أشرس المدافعين عن قيم العروبة .
ما نسيت دموع جدها و هو يحكي مآثرهم . لعلّ ما أبكاه أن جوده ما ترك ليده ما تجود به . حتّى في الموت كانوا الأكرم مقبلين على الشهادة بسخاء ،
فمن الأوراس انطلقت شرارة التحرير . ما كان يمكن للثورة أن تولد إلا في تلك الجبال (( الشاهقات الشامخات )). جغرافيتهم هي التي أنجبت التاريخ. على مدى تسعة اشهر، حمل
63
رجال الأوراس الثورة وحدهم ، احتضنوها شعلة فحريقاً ، اودى بقُراهم و مزارعهم و اهاليهم ودشراتهم و ماشيتهم . عزّلاً واجهوا جيوشاً لا عهد لهم بعتادها ، و حروباً ما عهدوا اهوالها . فقد اعتقدت فرنسا أنها إن سحقتهم ، سحقت الثورة إلى الأبد . حينئذ هبّ قادة الثورة ليفكّوا الحصار عن الأوراس بنقل العصيان الى مناطق اخرى ، بعد أن رأوا أنّ من غير العدل أن تستفرد الجيوش الفرنسيّة بأبناء الأوراس دون غيرهم .
قبل عيد ميلادها السابع عشر بأيّام رحل جدها أحمد . بلغت سنّ الرشد باكراً . موته كان اوّل علاقة لها بفاجعة الفقدان. كان كلأوراس المكلّل أبداً بالثلوج ، يبدو بقامته الفارعة و بعمامته البيضاء قريباً من السماء، فلم تكتشف أنّه تحت العمامة كان يشيخ و يهرم ، فحتى شارباه المضفوران إلى الأعلى لم يطاولهما الشيب .
في طفولتها ، كثيراً ما كانت تقاسمه نزهته ، تتسلق معه الجبل ممسكه بيده او بتلابيب برنسه ، الى أن يبلغا أعلى نقطة يمكن أن تصل قدماه اللتان تربّتا على تسلّق الجبال، حينذاك يجلس تحت شجرة من أشجار الصنوبر ، وعندما يرتاح ، يأخذ نايه المعلّق الى ظهر برنسه، ويشرع يغنّي كأنه نواح ، يفضي به الى التجلّي نشوة كلّما عبر صوته الأودية إلى الجبال الأخرى . لا يسعد إلاّ عندما يعود له رجع الصدى ، وكأن احداً يردّ عليه من الجبل الآخر .
لزمن طويل, اعتقدت انّه ينادي احداً ، وأنّ ذلك الشخص يردّ عليه من بعيد لاستحالة مجيئه بسبب الوادي الذي يباعد بينهما . فكلّ غناء كان يبدأ بنداء يطول .. يطول كأنه نحيب (( يااااا ياااااي ) ..
64
لعلّ شجن مروانة جاءها من (( القصبة )) التي لم تعرف آلة سواها . في النهاية ، لكلّ قوم مزاج آلتهم الموسيقيّة . قل لي ماذا تعزف اقلْ لك من انت ، و اروِ لك تاريخك وأقرأ لك طالع قومك . للغجر عنفوان قيثارتهم ، وللأفارقة حمّى طبولهم ، و للفرنسيين مباهج الاكورديون ، وللنمساويين شاعريّة كمنجاتهم ، و للأوروبيين أرستقراطية البيانو، وللأندلسيين سلطنة العود ..
لاحقاً ، أدركت أنّ غناء رجال مروانة كان امتداداً لأنين الناي ، ف (( القصبة )) آلة بوح لا تكفّ عن النواح ، كطفل تاه عن أمّه ، و يروي قصته لكلّ من يستمع اليه فيبُكيه ، لذا الناي صديق كلّ أهل الفراق ، لأنه فارق منبته ، و اقُتلع من تربته ، بعد أن كان يعيش بمحاذاة نهر ، عوداً أخضر على قصبة مورقة . تُرك ليجفّ فأصبحت سحنته شاحبة ، وانتهى خشباً جامداً. عند ئذ عُرض للنار ليقسو قلبه ، وأحدثوا فيه ثقوباً ليعبر منها الهواء كي يتمكّنوا من النفخ فيه بمواجعهم .. واذا به يفوق عازفه أنيناً .
من تُرى جدّها قد فارق، ليصاحب الناي ؟
كان يصعد الى قمّة الجبل ليقيم حواراً مع نفسه، عن وجع وحده يعرفه . أو لعله يعود كلّما استطاع ، كي يختبر صوته، فهو يقيس بحنجرته ما بقي أمامه من عمر ، ففي عرفه، أنّ رجلاً فقد صوته فقد رجولته .
روى لها أنه أثناء حرب التحرير ، كان يصعد إلى أبعد مرتفع في الجبل ، للقيام بنوبة حراسة للقرية، وعندما يرى من بعيد قوافل (( البلاندي)) و المدرّعات الفرنسية مقبلة ، ينادي منبّهاً أبناء الدشرة
65
لقدوم الفرنسييّن، فيتلقّف صداه ((ترّاس)) في الجبل الآخر، ثمّ آخر، ويتناقل الرجال النداء عبر الجبال متناوبين على إيصال الخبر إلى الأهالي كافة.
كانت الجبال منابرهم، وهواتفهم، ومنصّات غنائهم، وحائط مبكاهم، وسقفهم، لذا أعلنت فرنسا الحرب على الجبال، وألقت قنابل النابالم على الأشجار.. كي تحرق أيّ احتمال لبقائها واقفة.
لا تذكر أنها سمعت جدّها يوماً يغنّي أغنيةً فرحة. برغم ذلك، ما رأته يوماً حزيناً حقاً. حين كبرت، أدركت أن رجال مروانة يتجمّلون بالحزن، يتنافسون على من يحتفي بالشجن أكثر، فالشجن حزن متنكّر في الطرب. ذلك أن الطبيعة جعلتهم قساةً وعاطفييّن، والتقاليد الصارمة أهدت إليهم أكثر قصص الحبّ استحالة. فكيف لا يكونون سادة الأساطير والغناء؟
في ذلك الزمن الجميل، لم يحدث أن أفتى أحد بتحريم صوت امرأة، كيف ومروانة اسم أنثويٌ كدندنة، تخاله أغنية، هي صغيرة وغير مرئيّة، كنوتة موسيقيّة، لا توجد على خرائط المدن الجزائريّة، بل على خريطة السولفيج.
كلّ صباح، يصعد رعاتها السلّم الموسيقيّ، أثناء تسلّقهم مع أغنامهم جبالها. يطلقون حناجرهم بالغناء، فيحمل الصدى مواويلهم عابراً الأودية إلى الجبال الأخرى. لذا منذ الأزل يُباهي رجالها بحناجرهم لا بما يملكون. ففي مروانة فقط، يرفع الرجال إلى السماء ذلك الدعاء العجيب الذي لم يرفعه يوماً بشر إلى الله ((ياربي نقّص لي في القوت... وزد لي في الصوت!)). لزهد الطلب، استجاب الله لهم.
66
مروانة.. يا لغرورها، بلدة تخال نفسها بلاداً، فهي تعتقد أن مضاربها تصل حيث يصل صوتها!
لفرط ما رافقت جدّها على مدى سنوات إلى ذلك الجبل، اعتادت أن ترى العالم بساطاً تحتها. لم تكن نظرة متعالية على العالم، لكن تعلّمت وهي على أعلى منصّة للطبيعة، ألّا تقبل أن يطلّ عليها أحد من فوق.
هكذا تحكّم جبل الأوراس في قدرها.
***
نامت متعبة. تمنّت لو استقبلتها باريس بالأحضان. لكنّها أستقبلتها بالأمطار وبباقة ورد تقول ((تمنّيت ألا تخسري الرهان)).
كيف عرف هذه المرّة أيضاً مكان إقامتها، ومن يكون هذا الذي يتحكّم في نشرتها العاطفيّة مداً وجزراً؟ باقة بعد أخرى بدأت تكره هذه الورود المتعالية الغريبة اللون. هي ابنة المروج، نبتت بمحاذاة الأزهار البّريّة، لها قرابة بأزهار اللوتس، وبزهرة السيكلامان الجبليّة، فلماذا يطاردها بهذه الورود الغريبة اللون؟ لو أنها ماتحدثت إليه على الهاتف، لخالته أحد المرضى النفسانيين. لكنه يبدو رصيناً وصارماً في قراراته، بقدر مكر مناوراته. رجل في كلّ غموضه الآسر، غموضه المرعب. ماتوقّعت وهي تقبل بقواعد لعبته، أنّها كانت عند أول خطأ معرّضة لصاعقة فقدانه. أيُعقل أن تكون فقدته حقاً لمجرّد كونها لم تتعرّف إليه؟
67
انتابها أسى خسارة شيء لم تمتلكه اصلاً. لكن كان امتلاكه حلمها.
طلبت أمّها تطمئنها، وإلّا فلن تنام هي أيضاً، وستؤلّف في ليلة كلُ سيناريوهات المصائب، هكذا هي، ما عادت تتوقّع خيراً من الحياة. أحياناً كثيرة ينتابها الإحساس أنّها غدت والدة أمّها. لقد هدّ الألم تلك المرأة، التي كانت في السابق قويّة إلى درجة اتخاذ القرار بمغادرة حلب قبل ثلاثين سنة، والإقامة مع زوجها في بلاد لا تعرف عنها شيئاً، والتأقلم مع ظروف ما كانت تشبه حياتها في سورية.
ردّت نجلاء على الهاتف مبتهجة:
-كيفك حبيبتي.. إن شاالله وصلت بخير؟
-الحمدلله.. وإنتو كيفكم؟
-تمام.
-وهيدا الأخوت تبع الورد.. كيف طلع؟ إن شاالله حلو؟
ردت باقتضاب:
-إيه حلو..
لو قالت إنّها لم تره، لكان عليها أن تحكي نصف ساعة لتشرح ماحدث. وهي تتحدث على هاتف الفندق وسعر المكالمة مضاعف. لاحقاً ستحكي لها التفاصيل.
-فيكي تعطيني ماما؟
-خالة عم بتصلّي..
-طيب طمّنيها إنّي وصلت بخير. بكرة بحكيها.. باي حبيبتي.
68
إمّها كانت تريد أن تزوّج علاء بنجلاء. تقول إن أحدهم خُلق للآخر حتى في تقارب اسميهما وإنهما ((ما شاء الله الاثنين حلوين)). إليست ابنة خالته؟ ثم تحاول إغراء نجلاء بأخلاقه ((يقبرني شو طيّب وشو عاقل ها الولد)). غير أنّ لعنة علاء كانت بالذات في وسامته وحسن خلقه.
في الواقع، كانت أمّها تخطّط لجعله يغادر الجزائر، وينجو من بلاد بدأ يُهيمن عليها الجنون، ويحكمها الخوف والحذر.
ما ارتاحت أبداً لقرار الإقامة في قسنطينة لمتابعة دراسته في الطبّ.
كان عذره أنّها أكبر الجامعات في الشرق الجزائري، وكان مأخذها أنّه ذاهب إلى بؤرة الأصوليّة، محمّلاً بعقيدة الحياة.
صدق حدس أمومتها. كانت جامعة قسنطينة ممراً إجبارياً لكلّ الفتن، ومختبراً مفتوحاً على كلّ التطرفات. وبرغم ذلك، حاول علاء على مدى أربع سنوات أن يضع مسافة حذر بينه وبين زملائه. لكن ليس بينه وبين الزميلات، اللائي كنّ يلجأن إليه لما يوحي به من طمأنينة، وما يشعّ به من تمّيز في هيئته كما في تصرّفاته. كان ذلك مصدر متاعب إضافيّة، فأصحاب اللحى لم يغفروا له حظوته لدى بنات الجامعة، برغم قدر الاحترام الذي كان يحكم علاقته بهنّ، ولا غفروا له المجاهرة بآرائه تجاههم.
ثم حدث على أيام الرئيس بوضياف، أن دهمت السلطات الجامعة، وقبضت على عشرات الإسلاميّين، وأرسلتهم إلى معتقلات الصحراء بعد أن ضاقت المدن بمساجينها. عندئذ قرّر علاء أن يترك الجامعة حال تقديمه امتحانات آخر السنة، استجابة لإلحاح أمّه، على
69
أن يسافر لاحقاً إلى العاصمة لمواصلة دراسته هناك. كان يفصله عن الامتحانات شهران، لكنّ القدر كان أسرع منه، ما مرّ أسبوع حتّى حضر إلى الجامعة رجال الأمن، واقتادوه مع اثنين آخرين.
منذ ذلك الحين، أخذت حياته مجرى مأساة إغريقيّة، تتناوب فيها الآلهة على مصارعة إنسان اقترف ذنب حبّ الحياة، وحبّ فتاة ماكان يدري أنّ أحد الملتحين يشاركه في حبّها. ولأنّه لم يحظ بها، وشى به زوراً حتى لا يخلو لهما الجو أثناء اعتقاله.
كانت معتقلات الصحراء تضمّ عشرات الآلاف من المشتبه فيهم، يقبع بينهم الكثير من الأبرياء، فلا وقت للدولة للتدقيق في قضاياهم، أو محاكمتهم، لانشغالها بمن احتلّوا الغابات والجبال، وأعلنوا الجهاد على العباد والبلاد.
وجد علاء نفسه متعاطفاً مع الأسرى، بعد ما رآه من مظالم وتعذيب، وما عاشه من قهر وهو يخاول عبثاً إثبات براءته. بعد خمسة أشهر أٌطلق سراحه، لم يُقم بين أهله أكثر من بضعة أسابيع، كان في كل حي شبكات تجنيد، كما شبكات لاختطاف الأطبّاء والتقنييّن وكل من يحتاج الإرهابيون إلى مهاراته. أقنعوه بأن يلتحق بالجبال، ليضع خبرته في إسعاف ((الإخوة)) هناك ومعالجة جرحاهم.
لم يستشر أحداً، ولا أخبر أحداً بقراره. تحاشى تضرّعات أمّه ودموعها، والغضب العارم لأبيه الذي ما كان ليقبل بانحيازه لـ((حزب القتلة)). هاتف مقتضب منه أخبرهم بذلك. قال إنّه هناك ليعالج الناس ليس أكثر.
كان فيه شيء من غيفارا، ذاك الذي استعمل رحمة الطبيب لمداواة الشعوب من جراح الوحوش البشريّة مهما كان اسمها، دون أن يفرّق بين الظالم الحقيقيّ، والظالم المدجّج بسيف العدالة.
70
علاء يصلح بطلاً لرواية يعيش فيها البطل حياة لم يردها، حدث له فيها نقيض ماتمنّاه تماماً.
كان يكره أصحاب البزّات وأصحاب اللحى بالتساوي، وقضى عمره مختطفاُ بينهما بالتناوب. وجد نفسه خطأً في كلّ تصفية حساب، يحتاج إلى لحيته حيناً ليُثبت لهؤلاء تقواه، ويحتاج إلى أن يحلقها ليُثبت للآخرين براءته، حاجة الضحيّة إلى دمها ليصدّقها القتلة.
انتهى به الأمر أن أصبح ضدّهما معاً. أدرك متأخراً أن اللعبة أكبر مما تبدو. كان المتحكمون يضخّمون بعبع الملتحين، يغتالون صغارهم، ويحمون كبارهم الأكثر تطرّفاً. يحتاجون إليهم رداءً أحمر، يلوّحون به للشعب حين ينزل غاضباً كثور هائج في ساحة كوريدا، فيهجم على الرداء وينسى أنّ عدواً قد يخفي عدواً آخر. فهو يرى الرداء ولا يرى الماتادور الممسك بالرداء، وفي يده اليمنى السهام التي سيطعن بها الثور، وفي اليسرى الغنائم التي سطا عليها.
الخيار إذاً بين قتلة يزايدون عليك في الدين، وبذريعته يجرّدونك من حرّيتك.. وآخرين مزايدين عليك في الوطنيّة، يهبّون لنجدتك، فيحمونك مقابل نهب خزينتك.
حاولت أن تُخرج أخاها من تفكيرها كي تستطيع النوم، فأمامها في الغد مشاغل كثيرة. لكنّ علاء يطلّ عليها من كلّ شيء، فاجعتها به تفوق فاجعتها بأبيها. منذ سنتين ما استطاعت يوماً واحداً أن تتقبّل فكرة غيابه، فكيف تنساه في باريس التي زارتها معه.
أغمضت عيناها على منظر باقة التوليب.
71
شيء ما يقول لها إنّ ذلك الرجل سيطلبها، وإلّا لما قام بجهد البحث عن عنوانها. كانت تلك الفكرة الوحيدة التي يمكن أن تدخل السعادة إلى قلبها.
***
هو طاعن في المكر العاطفي، ويعرف كيف يُسقط أنثى كتفّاحة نيوتن في حجره. لكنّه يريدها أن تنضج على غصن الأنتظار. سيغدق عليها المفاجآت، حيثما تكن فستدركها وروده، لكنّ صوته لن يصلها بعد اليوم.
كان يمكن للطريق إليها أن يكون سهلاً، لكن طريقه إليها يمرّ بكبريائه، وهي أخطأت في تقدير الخسارات، لحظة قبولها قانون لعبته.
لقد أهانت ما كان كبيراً فيه، وشوّهت ماكان جميلاً، وشوّشت علاقته برجولته. أما من بذلة تكسوه غير ثروته؟ وحين يخلع ثراءه، بإمكان عابر سبيل أن يفوز عليه بقلب امرأة، لأنّه أكثر وسامة أو شباباً منه. مانفع عمرٍ إذاً، قضاه في صنع أسطورة تمّيزه، والعمل على رفعة ذوقه، وسطوة اسمه؟ أتكون كلّ النساء اللائي يطاردنه يكذبن عليه؟ يغازلن جيبه لا قلبه، ويحلمن وهنّ في سريره برجل سواه!
حتّى هذه الفتاة التي ليست أجمل ماعرف من النساء، لم تكترث بوجوده على مدى أربع ساعات قضتها بمحاذاته، ولا لفت شيء فيه نظرها وهو منتصب أمامها في المطار، برغم أنّ ثمّة من تغزّلن بعينيه، وأخريات بأناقته، أو كاريزما طلّته. لعلّها لاتدرك بعد مايغري فيه!
72
قصد مكتبه. قضى يومه منهمكاً في العمل لينهمك في نسيانها . برغم ذلك راح يفكّر: أيرسل لها ورداً بعد غدٍ إلى حفلها .. أم لا ؟
قرّر الّا يغيّر عادته . بلى سيرسل لها الباقة نفسها لكن بدون ايّ بطاقة ، لمزيد من العبث بأعصابها . ستتوقّع وجوده في القاعة ، وستواصل البحث عنه بين الجمهور.. هي لا تدري أنّ من هو مثله لا يختلط بجمهور..إنّه الجمهور في حدّ ذاته.
أمدّ سكرتيرته الفرنسيّة بتاريخ الحفل وعنوان القاعة،وقال على غير عادته كما ليبرّر تعليماته:
_إني مدعوّ إلى حفل يتعذّر عليّ حضوره . ارسلي مساءً باقة ورد الى هذا العنوان، وكلّفي إحدى الشركات تصوير الحفل.
ها قد اصبح يتصرف كصائد،يجمع كلّ التفاصيل عن ضحيّته .وماذا لو كان هو الضحيّة في حبّ كامل الدسم .. مكتمل الألم؟
ما يعنيه هو اللحظة التي تتلقّى فيها باقته، وتروح تبحث عنه بنظراتها بين الحضور،متوقّعة أنّها هزمته،وأرغمته على خرق أصول اللعبة.
يسلّيه تأمّل النساء،في تذبذب مواقفهن،وغباء تصرّفهن أمام الإشارات المزوّرة للحبّ!
***
انتابها خوف لذيذ وهي في طريقها الى الحفل،غير ذلك هو الخوف الرهيب الذي عرفته يوماً.
73
هذه أوّل مرّة تغنّي في باريس. ينتظرها جمهور جزائري و فرنسيّون من المتعاطفين مع الجزائر،فقد غطّى الإعلام حدث حفلها ضمن المتابعة اليوميّة لما درج على تسميته ((المذابح الجزائريّة)).
تلقّفت الصحافة قصّتها،وها قد غدت رمزاً للنضال النسائي ضد ((الاسلامييّن)) و ((العصفورة التي كسرت بصوتها قضبان التقاليد العربية متحدية من قصوا جناحيها))
كان يكفي ان تؤنث المأساة،وتضاف اليها توابل الاسلام والارهاب،والتقاليد العربيّة متحديّة من قصّوا جناحيها )).
كان يكفي أن تُؤنَّث المأساة ، وتضاف إليها توابل الإسلام والإرهاب والتقاليد العربيّة،لتكون قد خطت خطواتها الاولى نحو الشهرة!
هاتفها ابن عمّها جمال يعرض عليها الحضور إلى الفندق لمرافقتها إلى الحفل. هو يختلف تماماً عن أبيه. شابّ عصري، أنيق، متفتّح، فيه شيء من علاء.
بدا جمال في علاقته معها حائراً بين ابنة عمّه التي كان يعرفها أيام زيارتها لهم، والنجمة التي تجلس بجواره في السيّارة بكعب عالٍ، وشعر مبعثر على كتفيها، وفستان أسود طويل.
لتطمئنه أنّها لم تفقد روحها الجزائرية الساخرة، قالت مازحة:
-لو كنت رايحة انغني في حفل بالجزائر ما خليتكش تجيي معايَ.. واش نعمل بيك وإنت جايني لابس costume وحاط الجل على شعرك.. يلزمني واحد بحزام أسود للمصارعة.. أو بالأحرى أربعين مصارعاً لمرافقتي!
لم يفهم ماتعنيه. توقّع أنها تستخفّ بهيئته. أمام صمته أضافت موضحة:
74
-ألم تقرأ أنه بسبب تهديدات جماعة من الأصوليّين اضطرّ القائمون على حفلات قاعة الأطلس في العاصمة إلى استقدام أربعين مصارعاً من الحاصلين على حزام أسود لضمان حياة آيت منغلات والجمهور الذي حضر حفله، خشية أن يعتدي عليهم من حاصروا القاعة في الخارج؟ تصوّر في كلّ بلدان العالم يقصد المطربون الحفل مع فريق من المصوّرين والمزيّنين. أمّا عندنا، فيدخل المغنّي القاعة بفرقة من المصارعين. وبرغم هذا، أنت لا تضمن حياتك.. لو أرادوا رأسك لجاؤوا به حتّى لو حضرت برفقة ((بروس لي)) بطل الفنون القتاليّة شخصياً!
علّق جمال مازحاً:
-أنا مانيش متاع هذا الشي.. خاطيني ((الكاراتي)).. في البلاد شوفي واحد آخر يروح معاك!
-تعرف.. والله أغار من الذين يعزفون في الميترو في باريس. كلٌ يغنّي على مزاجه. قد يمرّ أحدهم ويضع له في قبّعته يورو، وقد لا يضع شيئاً. لكن على الأقل لا يضع له رصاصة في رأسه!
واصلت ضاحكة:
-الحمدلله.. نظلّ أحسن حالاً من الأوكسترا الوطنية العراقّية..أطلقت عليها الصحافة اسم ((أشجع أوركسترا في العالم)). تقيم حفلات سرّية لا يرغب المنظّمون في الإعلان عنها، بل يفضّلون أن يعلم بأمرها أقلّ عدد ممكن! تصوّر.. دمّرت الصواريخ الأمريكيّة قاعة حفلاتها، وخُطف البعض من أفرادها، وقُتل آخرون لأسباب طائفيّة، وفرّ نصف أعضائها للخارج.. ومازال من بقوا على قيد الحياة يقطعون حواجز الخطف والموت، ويصلون إلى المسرح ببزاتهم
75
السوداء، حاملين آلاتهم في أيديهم ليعزفوا، وسط دويّ المتفّجرات، مقطوعات سمفونيّة لباخ وفيفالدي.. كما لو كان كلّ شيء طبيعياً. مشهد سريالي، الفرقة والجمهور مرعوبون لكنهم يستعينون على خوفهم بالموسيقى. والله هَمّ ينسّيك هَمّ!
كانت بحاجة إلى أن تستعرض بطولات الآخرين لتستقوي بهم على خوفها. الحقيقة أنها كانت تغنّي لأوّل مرّة في فرنسا، وتقف تحت أضواء إعلاميّة أكبر من عمر صوتها، فهي لم تكن مهيّأة لقدر كهذا. كل هذه الضجة التي رافقتها تربكُها، لفرط ما طالبوها برفع سقف التحدّي، كلّ حسب انتماءاته. البعض قال لها: ((مذ غنّى عيسى الجرموني في الخمسينيات في قاعة ((الأولمبيا)) الشهيرة، هذه أول مرّة يستعيد الشاوّية مجدهم في باريس)). ردّت بأنها خارج الجزائر جزائرية فحسب.
كانت تمازح جمال لتروّض توتّرها المتزايد. غير أنها وجدت طريقة للسيطرة على انفعالاتها بإلقاء كلمة صغيرة تمنحها فرصة استيعاب الموقف والسيطرة على الجمهور منذ اللحظة الأولى. ذلك أنّها في النهاية مُدرّسة، والتوجّه إلى الآخرين من منصّة هو نقطة قوّتها. أمّا الوقوف على المسرح ومباشرة الغناء، فهو أمر ما زال يُربكها.
ما كادت تُطلّ على الجمهور، حتّى ارتفعت موجة من التصفيق والهتافات الوطنيّة، وراح البعض يلوّح بأعلام الجزائر. كان الجوّ مشتعلاً بما فيه الكفاية. شعرت بأن الذين حضروا لم يأتو للطرب، بل ليعلنوا رفضهم للإرهاب. إنّها هنا أمام أنصارها.
76
أرتجلت كلاماً كانت قد أعدّت بعض أفكاره في ذهنها. جاء كلامها مذهلاً في تلقائّيته، مؤثّراً في نبرة قوّته. خيّم صمت كبير على القاعة. لقد كانت تتكلّم وهي تطلّ عليهم من جبلها ذاك.
قالت:
-ذات يوم.. ساق الإسرائيليون سهى بشارة بطلة المقاومة اللبنانيّة إلى ساحة الإعدام.. أوهموها أنهم سيعدمونها، قيدوا يديها ورجليها وصوبوا فوهة المسدس إلى رأسها وسألوها عن أمنيتها الأخيرة في الحياة. ردّت ((أريد أن أغنّي)) وراح صوتها يترنّم بموّال من العتابا الجبليّة:
((هيهات يابو الزلف عيني ياموليَّ
محلا الهوى والهنا والعيشة بحرّية))
أشبعوها ضرباً وعادوا بها إلى الزنزانة. وواصلت سهى بشارة الغناء.
على مدى أعوام، اعتاد أسرى السجن الخيام سماع غنائها. صوتها البعيد الواهن، القادم من خلف قضبان زنزانتها، أبقاهم أشدّاء. فإنّ من يغنّي قد هزم خوفه.. إنّه إنسان حرّ!
بلى، بإمكان من لا يملك إلّا حباله الصوتيّة أن يلفّ الحبل حول عنق قاتله، يكفي أن يُغنّي، فلا قوّة تستطيع شيئاً ضدّ من قرّر أن يواجه الموت بالغناء.
عندما اغتال الإرهابّيون الشابّ حسني، وقطفوا زهرة صوته، ما توقّعوا أن يصعد شقيقه إلى المنصّة، ليثأر لدم أخيه بمواصلة أداء أغانيه أمام جثمانه، أربكهم أن يواجههم أعزل إلاّ من حنجرته.
بلى، بإمكاننا أن نثأر لموتانا بالغناء. فالذين قتلوهم أرادوا اغتيال الجزائر باغتيال البهجة. أوليست ((البهجة)) هي الاسم الثاني
77
للجزائر؟ ليعلموا أنهم لن يخيفونا، ولن يسكتونا.. نحن هنا لنغنّي من أجل الجزائر، فوحدهم السعداء بإمكانهم إعمار وطن.
انطلق النشيد الوطنيّ ووقفت القاعة تنشد:
((قسماً بالنازلات الماحقات والجبال الشامخات الشاهقات
نحن ثرنا فحياة أو ممات وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر
فاشهدوا فاشهدوا)).
ما كاد ينتهي النشيد حتّى ارتفعت الزغاريد والهتافات، وصعدت سيّدة إلى المنصّة لتقبِّلها وتضع علم الجزائر على كتفيها.
حيث تحلّ يقلّدها الموت وسامه. هي ابنة القتيل وأخت القتيل. لها قرابة بمئتي ألف جزائري ما عادوا هنا. قتلهم الإرهابيون، واختلف في تسميتهم الفقهاء: أهُم ((قتلى))؟ أم ((ضحايا))؟ أم ((شهداء))؟ فكيف يفوزون بشرف الشهادة، وهم لم يموتوا على أيدي ((النصارى)) بل على أيدي من يعتبرون أنفسهم يد الله، وبيده يقتلون من شاؤوا من عباده؟
كان ذلك الحفل أجمل ماعاشته منذ مأساتها. أدّت فيه أكثر ممّا كان مقرّراً من أغان. ثم عادت ببعض باقات الورد، لتبكي ليلاً وحدها.
أليس الغناء في النهاية هو دموع الروح؟
في الفندق، تأمّلت باقات الورد المتواضعة التي قُدمّت لها. إنّها الأبسط لكنّها الأصدق؛ من مغتربين بسطاء يقولون الأشياء دون تنميق أو بهرجة. إحداها كُتب عليها بالفرنسية ((L'Algerie t'aime)). بكت. هل حقاً ((الجزائر تحبّها))؟
78
كما كانت بحاجة إلى هاتين الكلمتين! لكن، لفرط ما أسدى لها الوطن من ضربات، ما عاد أذاه بل حبّه هو الذي يبكيها. ثمّ، ماجدوى نجاح تعيشه وحدها، ما دامت الجزائر التي تحبّها ما تركت لها رجلاً تقتسم معه فرحتها.
حتى ذلك الرجل، قاصصها بصمت، كباقة التوليب التي وصلتها منه دون أيّ كلمة. باقة صامتة كصاحبها، الذي أغلق هاتفه وماترك لها من وسيلة لتقول له شيئاً.
هل أكثر عنفاً من الصمت العاطفي؟
وثمّة إرهاب آخر كان ينتظرها، مقنّعاً بالشفقة وبروح الإنسانيّة. كلّ من حاورها من الصحافة الأجنبّية أرادها ضحيّة التقاليد الإسلامية، لا الإرهابين. خرجت للغناء لكسر القيود التي يكبّل بها الرجل العربيّ المرأة، لا لتتحدىّ القتلة. ثم ماذا لو كان الجيش هو الذي يقتل الأبرياء.. ثم يقدّم نفسه كطوق نجاة فيفضّل الناس الطاعون على الكوليرا؟!
عندما أجابت بغير ما أرادوا سماعه، أولى لها الإعلام ظهره، وألغيت دعوتها إلى حلقة تلفزيونيّة كانت ستشارك فيها.
فليكن! الشجاعة هي أن تجازف بقول ما لا يعجب الآخرين. وهي ليست هنا لنشر غسيل الوطن على حبال صوتها. ولماذا عليها أن تضع اسماً للقاتل؟
كان ولاؤها أوّلاً للحقيقة، وهي لا تملكها كاملة، وتدري أنّ كلّ شيء كان ممكناً في وطن من فوق قبوره تٌبرم صفقات الكبار، وتحت نِعال المتحكّمين بمصيره يموت السذّج الصغار. لكن في حياة قضتها واقفة، لم تكتسب يوماً مهارات الجلوس على المبادئ، لذا لن تفوز
79
بشهرة لاتفتح في الغرب إلّا لمن يُتقن دور الضحيّة، مًضحّياً بقيمه. لذلك الضوء الساطع ثمن ما كانت جاهزة لدفعه.
في الجزائر، أدركت على حسابها أنّ الحروب ليس فيها حقيقة واحدة، ولا إرهاب واحد.
الإعلام الرسميّ الذي راح بداية يبارك تمرّدها، ويروّج لها كنموذج لجزائر الصمود والشجاعة، كان في الواقع يُصفّي من خلالها حساباته مع الإسلامييّن، وسرعان ما تحوّل إلى تصفية حساباته معها.
بدأت مشاكلها حين راحت تصرّح للصحافة الحرّة، بأنّ ثمّة جزائر للقلوب وأخرى للجيوب، وإرهاباً سافراً وآخر ملثّماً، وأن كبار اللصوص هم من أنجبوا للوطن القتلة، فالذين حملو السلاح ماكانوا يطالبون هم من أنجبوا للوطن القتلة، فالذين حملوا السلاح ماكانو يطالبون بالديمقراطيّة بل بديمقراطية الاختلاس وبحقّهم في النهب، إذ لا سارق اقتيد إلى السجن.
في ذلك الحين، بدأ الغربان ومتعهّدو الدماء يحومون حول صوتها النازف، ويشجّعونها على رفع النبرة، ويزوّدونها الأسماء.. وأعواد الكبريت!
كانوا يريدونها حطب المحرقة، لكنّ ((جان دارك)) التفتت ساعة المعركة فما رأت رجلاً. وجدت نفسها وحيدة مثل ((حامل الفانوس في ليل الذئاب)) في مواجهة وحوش جاهزة للانقضاض على أيّ أحد، دفاعاً عن غنيمتها. الكلّ أدرك فحوى الرسالة ((كن صامتاً.. أو ميتاً)). كلّ حكم يصنع وحوشه، ويربّي كلابه السمينة التي تطارد الفريسة نيابة عنه.. وتحرس الحقيقة باغتيال الحقّ.
80
ذات صباح، طلبها المدير ليخبرها أنّها مفصولة من العمل. الذريعة أنّ الأهالي لا يريدون أن تُدرّس مطربةٌ أبناءهم. ذريعة تشكّ كثيراً في صدقيّتها. فما كانت مطربة حفلات ولا أعراس. هي لم تكن قد غنّت سوى مرّتين: مرّة في ذكرى وفاة والدها، ومرة في برنامج تلفزيوني. ثم إنّها كانت محبوبة لذا الأهالي، فقد كانت تزورهم في بيوتهم، أو تهاتفهم لتطمئنّ على التلاميذ إن تغيّبوا. ففي تلك الأيام، كان المهم أن تحفظ رأسك لا أن تحفظ درسك، مذ درج الإرهابيّون على قتل كلّ من يحمل محفظة مدرسيّة، مُدرّساً كان أو تلميذاً.
رأت أمّها في قرار طردها إنذاراً أوّلَ، سيليه ما لا تُحمد عقباه. ولأنّها لم تشأ أن تترك قبراً ثالثاً في الجزائر، أخذت ابنتها وغاردت إلى سورية.
((حيثما أمُت، فسأموت وأنا أغنّي.))
فلاديمير ماياكوفسكي
أشعل غليونه وراح يتابع تسجيل الحفل.
عجب، وهو يراها ترتجل تلك الكلمة، أن يكون الإرهابيّون قد منعوها من الغناء. كان عليهم إصدار فتوى تحرّم عليها الكلام، إنّها أخطر وهي تتكلّم!
هو يفضّل كلامها. لو أنّها كانت تغنّي يوم رآها أوّل مرّة على التلفزيون لربّما غيّر القناة، ما أسره هو هذا الكبرياء، لعلّه سرّ شغف الناس بها أينما حلّت، لكأنّها ابنة البراكين، تتدفق حممها حال وقوفها على منصة.
كم يودّ قطف هذه الزهرة النارّية دون أن تحترق يده. أن تكون له وحده، هذه المجدليّة التي ماكادت تنهي الغناء، حتّى زحف الجمهور نحوها ليتبارك بها.
خاب أمله في رؤيتها حين أمدّوها بباقته، فقد أوقف المصوّر لقطاته حين طوّقها الجمهور وعمّ القاعة شيء من الفوضى.
أطفأ جهاز التسجيل وراح يفكّر في ما اكتشفه فيها.. فانكشفت به جراح روحه.
84
هذه امرأة تكمن ((أدواتها النسائيّة)) في صفاتها الرجاليّة.
هي شُجاعة ومُكابرة، وتملك حساً وطنياً فقدَ هو وهجه، لفرط غربته ومتاهته على مدى ربع قرن في البرازيل. هناك، في أرض الكرنفلات والأقنعة الأفريقيّة، أضاع ملامح وجهه الأصليّة. كلّ من أقام في البرازيل سكنته كائنات الغابات الأمازونيّة، وأرواح نساء ما زلن يرقصن السامبا، في انتظار الصيّادين العائدين بشباك تتراقص فيها الأسماك، ونبتت له أجنحة ملوّنة، كالفراشات المدارية العملاقة في حقول الساركاو، فغدا كائناً خفيفاً لا يمشي بل يحلّق.. ففي رأسه لا يتوقّف البرازيلي عن الرقص.
حسدها لأنّ لديها قضيّة، وماعادت له قضايا منذ زمن.
في لبنان، ما من قضيّة إلّا تصبّ في جيب أحد. فليعمل المرء إذاً لجيبه.. بدل أن يموت ليصنع ثراء لصوص القضايا، وأثرياء النضال، المقيمين في القصور والمتنقّلين بطائراتهم الخاصّة. شرفاء الزمن الجميل، ذهبت بهم الحرب، كما ذهبت بأبيه، وقذف البحر بما اعتاد أن يرمي به للشواطئ، عندما تضع الحروب أوزارها.
في مامضى، في سبعينيّات القرن الماضي، أيّام الحرب الأهليّة، كان جاهزاً للموت حتى من أجل ملصق على جدار يحمل صورة قائد حزبه أو زعيم طائفته. الآن وقد تجاوز مراهقته السياسيّة، أدرك سذاجة رفيقه الذي مات في ((معركة الصوَر)) دفاعاً عن كرامة صورة لمشروع لصّ، أراد ساذج آخر أن يقتلعها ليضع مكانها صورة زعيم آخر لميليشيا. فمات الاثنان وعاش بعدهما اللصان.
هل ثمّة ميتة أغبى؟
85
بلى، ثمّة حماقة أكبر، كأن تموت بالرصاص الطائش ابتهاجاً بعودة هذا أو إعادة أنتخاب ذاك، من دون أن يُبدي هذا ولا ذاك حزنه أو أسفه لموتك، لأنك وُجدت خطأ لحظة احتفال ((الأربعين حرامي)) بجلوس ((علي بابا)) عل الكرسّي.
وثمّة عبثيّة الشهيد الأخير في المعركة الأخيرة، عندما يتعانق الطرفان فوق جثّته.. ويسافران معاً ليقبضا من بلاد أخرى ثمن المصالحة.. إلى حين.
حين وقع على هذه الحقائق، نزل من ذلك القطار المجنون، واستقلّ الطائرة هرباً إلى البرازيل، انشقّ عن حزب ((النضال)) وانخرط في حزب الحياة. ماعاد له من ولاءٍ إلا لها.
تلك البلاد التي وصلها مفلساً، ما عاش فيها يوماً فقيراً. فهناك يعمل الناس كما لو كانوا عبيداً، ويعودون من أعمالهم ليعيشوا بقيّة نهارهم أمراء. مباهجهم لا علاقة لها بجيوبهم، هي في أذهانهم. من يملك دولاراً يحتفي به كما لو كان ملياراً. فالدولار عندهم لا يغدو ثروة إلا اذا حوّلوه إلى حياة، بينما يكتنز غيرهم الحياة، بتحويلها إلى أوراق مصرفية يعمل صاحبها بدوام كامل حارساً لها.
منهم تعلّم أن يعيش الحياة كاحتفالية كبيرة، كما لو كان في كل موعد معها ينفق آخر دولار في جيبه، كي لا يتفوّق عليه سعادةً من ليس في جيبه إلّا دولار.
وحتى تلك الفتاة، تعنيه لأنّه يدري ماتخفيه تحت حدادها من شهوة الحياة.
من مكر الأسود قدرتُه على ارتداء عكس ما يضمر!
***
86
ما استطاعت أن ترفض دعوة بيت عمّها. تركت ذلك للآخر، حتّى لاتعكّر مزاجها منذ أوّل يوم.
أخذت لهم ما في غرفتها من ورود، كي تمنح الحب حياة أطول، فقد عز عليها أن تلقي تلك الورود وهي متفتحة في سلة المهملات.
عبثاً هربت من ذلك البيت، لا تريد أن ترى أطياف علاء ووالدها.. في الصالون وحول مائدة الطعام. وخاصة، لاتريد الرد على تلك الأسئلة التي توقظ المواجع. لكن أسئلة أبناء عمها جاءت مع فنجان الشاي.
-لماذا لاتقيمين في فرنسا إلى أن يهدأ الوضع؟
-أنا سعيدة مع أمّي في الشام.
-استفيدي.. اطلبي بطاقة الإقامة مادامت الظروف مؤاتية، ربما احتجت إليها لاحقاً. سيمنحونك حق اللجوء.. نصف الجزائر انتقل إلى باريس، معظمهم بملفات ملفقة.. منهم من يدعي أن السلطة تهدده، وآخر أن الإرهاب يطارده. أنت يطاردك كلاهما..
كانت ستردّ بأن الذاكرة وحدها هي ماتطاردها.. كما في هذا البيت.
وبرغم ذلك، جاء السؤال الذي لا مفرّ منه:
-سامحينا يا بنتي.. كيفاش مات علاء الله يرحمو، حدّ ما قال لنا واش صار؟
أُمّ جمال تريد أجوبة موجعة، تليق بفاجعة شاب في عمر ابنها استنفد أحلامه باكراً. تريد التفاصيل التي يحتاج إليها الأقارب الذين لم يروا جثّة فقيدهم، ويحتاجون إلى دليل وتفاصيل ليتقبّلوا فكرة موته.
ابتلعت دموعاً لا تريد ان تحتسيها في حضرة أحد.
87
هي هكذا، كلّما تكّلمت عن علاء، تحدّثت كما لو أنّه ما زال هنا. ثم لاحقاً، في اللحظة التي لاتتوقّعها، لسبب لا علاقة له في الظاهر به، تنهار باكية. الآن هي تروي، بنبرة عاديّة، قصة حدثت قبل سنتين، لشاب جميل، كما أولئك الذين يشتهيهم الموت.. كان أخاها الوحيد.
-عندما عاد من معتقلات الصحراء، سعدنا لأنهم، بعد خمسة أشهر لم نعرف فيها شيئاً عنه، اقتنعوا ببراءته وأطلقوا أخيراً سراحه. لكن لم يكد يمر شهران على إقامته بيننا، حتى جاء من يُقنعه بأن كل ماحدث له من مصائب هو بسبب ابتعاده عن الإسلام، فلا صلاته ولا صيامه سيشفعان له عند الله إن لم ينصر مجاهديه، لكونه قضى سنتين في العسكرية لخدمة الوطن، ولم يُعط من عمره شهراً لخدمة الإسلام. أغروه بالالتحاق بالجبل للإيفاء بدينه ومعالجة الجرحى من الإسلاميين ولو بضعة أسابيع. ذهب علاء دون أن يخبرنا بقراره. ما كان يدري أن الخروج من الجحيم ليس بسهولة دخوله.
صاح جمال مذهولاً:
-مضى بملء إرادته إلى الإرهابيين؟!
-استفادوا من حالة إحباطه ومما شاهد من مظالم في المعتقلات، ليلعبوا بعاطفته. إن لهم قدرة على إقناعك بما شاؤوا.
-وبعد ذلك؟
-بعد ذلك.. قضى أكثر من عامين متنقّلاً بين المخابئ في الجبال، يُعالج الجرحى ويولّد النساء المغتصبات اللائي ((سباهنّ)) الإرهابيّون بذريعة أنّهنّ بنات وزوجات موظفين أو عاملين في ((دولة الطاغوت))، لكن ذلك لم يشفع له. حين طلب السماح له بالعودة، غذّى شكوكهم، فقد كانوا يشتبهون في أنّ الجيش أرسله ليتجسّس عليهم، بسبب جهله في أمور الدين. تفتّقت حينذاك قريحة أحدهم
88
عن اختبار شيطاني، أن يُثبت لهم اعتناقه الجهاد بعودته لقتل والده، ويكون إذذاك آمناً على نفسه، بتصفيته مَن جعل من صوته ((مزامير للشيطان)).
توقّفت عن الكلام لتستعيد جأشها.
سأل الجميع في الوقت نفسه:
-وماذا حدث؟!
-أمام هول الاختبار، غدا مطلبه أن يساومهم على حياة أبيه ببقائه معهم. قال لهم إنّه ماجاء ليقتل بل ليعالج، وإنّه سيبقى في خدمتهم ما شاؤوا مقابل ألاّ يؤذوا والده. ما كان يدري أن لا صفقة تُبرم مع القتلة، ولا توقع أنّه أثناء وجوده معهم أرسلوا من يقتل أبي. علم بذلك بع أشهر عندما نزل من الجبل مع من نزل من التائبين في إطار العفو والمصالحة الوطنيّة. أخرجته الصدمة من صوابه، وكان قد وصلنا نصف مجنون لهول مارأى. فقد غدا غريباً عن نفسه وغريباً عنّا، وإرهابياً في عيون أصدقائه السابقين، ومشبوهاً في عيون الإرهابيين الذين لم يغادروا بعد حجورهم في الجبال، ويعتقدون أنّه الحلقة الأضعف، وأنه سيشي بمخابئهم للجيش. وهكذا، أرسلوا أحداً لتصفيته بعد شهرين من إقامته بيننا.
صمتت فجأة. فهي لم تدرِ أيّ كلمة تختار لتصف حدث موته: ((تصفيته)).. ((قتله)).. ((الإجهاز عليه))؟.. لفرط ما مات علاء مذ استباحوا نبله، واغتالوا شهّيته للحياة، وأعدموا بهجة حواسّه، كلّ كلمات الموت مجتمعة لا تكفي لوصف عبثية رحيله الأبدي.
ها قد أشبعتهم التفاصيل.. فليبكوا إذاً!
انتهى الكلام لا الرواية، فلقد احتفظت لنفسها بالتفاصيل.
***
89
نزل علاء من الجبال، مع آلاف ((التائبين)) الذين سلّموا أنفسهم إلى السلطات بعد الضمانات التي قُدمّت لهم. لم يتب عن القتل، فما اغتال سوى أوهامه. كان يحلم بالعودة إلى بيته، كما يحلم البعض ببلاد بعيدة موعودين بها. وعندما عاد إلى أهله، اكتشف أنّه لم يعد إلى نفسه. اهتزّ سلامه الداخلي، أصيب بحداد نفسي، ودخل واقع اللاواقع منزلقاً نحو الفصام. لفرط ما راكَمَ في سنتين من سنوات، ماعاد له من عمر.. ولا من اسم. ظل لأيام يُفاجأ عندما يُناديه أحد باسمه. يأخذ بعض الوقت قبل أن يّرد، ريثما يُصدّق أنّه المعنيّ.. وأنّه ماعاد ((أبو إسحق)) بل علاء.
كانت أوّل صدمة هي اكتشافه اغتيال أبيه في غيبته. سأل: ((كيف قتلوه؟)) وعندما علم أنّهم (فقط) أطلقوا رصاصتين على رأسه، كان عزاؤه أنّه لم يتعذّب. فمن حيث جاء، شهد صنوف التعذيب أهوالاً واجتهادات لا يمكن لنفس بشرية أن تتصوّرها.. أرحمها، جعلُ سجينٍ يحفر قبره بنفسه، وإجباره على التمدّد فيه، ثمّ تغطيته بالتراب ومشاهدته وهو يعطس ويبصق. وخلال لحظة يسود الصمت، فيطؤون التراب فوقه بأقدامهم ثمّ يرحلون.
بعض من وقع في الأسر، لتهمة لايدري ماهي، اختار الإسراع بالانتحار حتّى لا يتعرّض للتعذيب. شاهد أحدهم يخنق نفسه عبر أكل الرمل الممزوج بالأرض الممتدة حول الشجرة التي كان مربوطاً إليها، فعلى مرأى منه كان يُسلخ أسير من جلده، ويُترك لأيام يحتضر إلى أن يفرغ دمه، برغم كونه وشى حتى بأخته.. المتزوجة بشرطيّ!
90
كم مرّة تماسك كي لاينهار أو يُغمى عليه خشية ألا يستيقظ أبداً. فلا مكان بين القتلة لضعيف. لكنه الآن وقد نجا، انهارت قواه تماماً، يعيش مع أخته وأمه مشلول الإرادة والتفكير،متشرّداً بين القيم المتناقضة. لاتكف أمه عن ضمه والبكاء. لقد بكت مذ مضى، وتبكي الآن لأنه عاد. وهو كّلما خلا إلى نفسه بكى. قاوم دمعه عامين، لكنه الآن استعاد حقه في البكاء، فهو لايغفر لنفسه ما سبّب للجميع من أذى، ولايدرى ماذا عليه أن يفعل لإسعاد أمه. هل يواصل الدراسة؟ هل يعمل؟ هل يتزوّج؟ هل يغادر أم يبقى؟ وإن غادر فكيف يتركهما ويمضي؟ وإذا انتقلوا جميعاً للعيش في الشام كما تريد أمّه، فمن أين لهم المال؟
لو كان أميراً من أمراء الموت، لربّما فُتحت له أبواب الرزق، وقُدّمت له مساعدات على قدر مقام سيفه، ولكوفئ على انقلابه على فتاواه الأولى بإصدار فتاوى جديدة تحرّم على من لا يزالون في الجبال مواصلة الجهاد. لكنه ليس أميراً، ولا يتحكم في سرايا الموت، ولا في كتائب القتال. هو مازال غير مصدّق أنه استعاد حياته. ثم إنّ ((إخوته)) الأمراء ليسوا معنّيين بأمره، هم مشغولون الآن بتجارتهم، بعد أن تاجروا به وبغيره.
عمّار التحق بالجبال بعده، ونزل منها قبله. كان أميراً هناك.. ووجده أميراً هنا. يستمتع بحقه في الحياة بعد أن انتزع من الآخرين هذا الحقّ. يملك الآن تجارة مزدهرة، إلى حدّ مثير للعجب. إن سألته كيف اكتسبها، أجابك بما تفهم منه أنّه جدير بالربح، وأنّه لايليق بك إلّا الخسارة، لأنّ الله ليس معك. هو معه. له العناية الإلهّية، لذا تجارته
91
مباركة، ومكاسبه حلال، وعليك أن تستنتج أنّك ملعون، ومستثنى من رحمة الله، برغم كونك مؤمناً، ومحسناً، وتخاف الله، وماقتلت نفساً بغير حقّ.
سيقول لك كلّ هذا باللغة العربيّة الفصحى، التي لا يتخاطب ((أصحاب البركات)) إلّا بها، لأنّها لغة أهل الجنّة. ولا تدري كيف تردّ عليه وأنت في جحيمك، تركت جحيم الموت، لتجد جحيم الحياة في انتظارك.
بالنسبة إلى علاء، لقد طُرد من الجنّة الأرضيّة يوم فقد الحبّ. لعلّها الغيرة، وذلك العشق المتطرّف رغبة في استحواذه على الحبيب، حدّ فقدانه في نهاية المطاف.
كانت هدى قد أنهت دراستها قبله، بحكم تخصّصها في الصحافة. لم يتقبّل فكرة انتقالها للعيش في الجزائر. وما كانت هي جاهزة للتنازل عن فرصة قد لا تتكرّر، في العمل مقدّمة أخبار في التلفزيون. ما إن غادرت إلى العاصمة، حتى غادر هو إلى الجبال. ربما أراد أن يقاصصها فقاصص نفسه بها، وهو يلقي بنفسه في التهلكة هرباً من عذاب فراقها.
حيث كان انقطعت أخبارها عنه. وهو الآن يودّ أن يعرف من بعيد، ماحلّ بها منذ سنتين إلى اليوم، لايريد أن تراه على ماهو عليه من بؤس المظهر. يحتاج إلى بعض الوقت كي يستعيد ما فقد من وسامته وصحته.
اتّصل بأخيها، فهو صديقه وزميل سابق له في الجامعة. سعد عندما سمع صوت ندير يردّ على الهاتف. مذ عاد وهو غير مصدّق،
92
أن يردّ أحدهم على رقم هاتفي في حوزته. ما أدراه بما حلّ بالناس في غيبته!
اتفقا على أن يلتقيا. تجمل له ما استطاع، كما لو كان يتجمل لهدى، فهو يتوقع أن ينقل لها أخباره. لكنه وجد نفسه أكثر أناقة منه.
كان ندير في السابق سيّد التأنّق والبهجة. كأنه قطع عهداً على نفسه ألا يحزن. وكان هذا أول ماشدّه إليه. فقد كانا منخرطين معاً في حزب الحياة. ندير يحفظ آخر الأغاني الأجنبيّة، ويدري بآخر التقنيات. يحرم نفسه من كماليّات، ليشتري آخر جهاز تكنولوجي.. وأول جهاز كمبيوتر يدخل البلاد. هو دائماً أمام شاشة بحكم دراسته في مجال المعلوماتية. إنه خرّيج الحياة الافتراضيّة!
حاولا أن يستعيدا روح دعابتهما السابقة.
قال ندير:
-واش.. مازلت حي؟
رد علاء بالسخرية نفسها:
-وأنت مازلت في ((la planete)) متاعنا؟ حسبتك بدّلت المجرّة!
-أنا في المجاري ياخو.. أنت على الأقلّ كنت في الجبْل، عندكم الأكسجين فوق.. هنْا نشّفولنا حتى الهْوا. يمكن يكونوا يبيعوا فيه بـ((الدوفيز)).. كل شيء يتباع بالعملة الصعبة غير إحنا اللي رخصنا!
-وش راك تدير هاذ الأيّامات؟
ضحك ندير. لا أحد سأله ماذا يفعل هذه الأيام، فأن تبقى على قيد الحياة في حد ذاته فعل. الناس يسألون أما زال فلان حياً، لا ماذا يفعل!
93
ردّ بتهكّم:
- ما اندير والُو.راني اندور ..مثل رواية مالك حدّاد((الاصفارتدور حول نفسها))راني هاك ذاك اندور .وإنت واش مطلعك للجبل وإلا هبلت يا راجل؟!
ردّ علاء كما ليبرّر حماقته:
- ما على باليش واش صار لي كنت كاره حياتي !
- يا خويا إذا كاره حياتك إقطع البحَر مش تطلع للجبل ..عندك على الآقل احتمال توصل للجنة ..وتعيش في فرنسا والا إسبانيا تاكل كل اليوم ((لابايلا)).
ردّ علاء بسخرية سوداء :
- والله يأكلك الحوت قبل ماتاكل ((لابايلا))!
- ياكُلني الحوت ولا ياكُلني الدود ..
الندير يتكلم بقهر شابّ تخرّج ولم يجد وظيفة منذ سنتين حتماً هو يقول كلاماً غير مقتنع به تماماً.إنه يعاني من حالة خذلان ،ذهبت به من التطرف في البهجة الى التطرف في الخيبة .
راح علاء يقترب من الموضوع الذي يعنيه ،سأله:
- أنا قلت تكون تزوجّت في غيابي ..
رد ندير ساخراً:
نتزوّج ؟وعلاش هبلت !يا ربّي نسلّك راسي ..وين رايحين يهربوا البنات..راهم أكثر من ثلاثة ملايين بايرة في الجزائر! ..
كانت هذه أوّل مرّة يسمعه يتكلّم بهذه الطريقة.لعلّ إحداهن ضحكت عليه ،أو تخلّت عنه.ماذا عساها تفعل مع شاب لا مستقبل له؟
طرح أخيراً سؤاله الآهمّ:
94
-وهدى واش راهي؟
-هدى تقول حدّ دعا عليها دعوة شرّ !يرحم باباك ،كاين واحد يروح يعمل في التلفزيون والارهابيين كلّ أسبوع يقتلوا صحافي؟!يا خويا تحب الأضواء بزّاف..((مضروبة عليها))..خلّيها تموت تحت الأضواء !
كان يريد أن يسأله((هل تزوجت او هل في حياتها أحد؟)) لكنّه استنتج أنّها لم تتزوّج بعد.أمّا السؤال الثاني فلا أحد يمكن أن يجيب عنه سواها.كم يشتهي أن يعرف أما زالت تحبّه ؟هل تذكره ؟هل تشتاقه؟اكتفى بسؤاله عن مشاريعه .
-واش ناوي اديّر؟
-ناوي على الهربة ..ما يسلكني غير البْحَر.كاين بزاف راحوا وراهم في اسبانيا لاباس عليهم .
لا مجال لمناقشته .إنه لا يرتاب في البحر .يثق به أكثر من الوطن الذي سيتركه خلفه.سيبحر ويعود.بشباك فارغة للأحلام !
عاد علاء من ذلك اللقاء سعيداً،لقد بقي له على الاقل صديق واحد.ففي محنة كهذه تكتشف الناس.
مذ عودته ،خسر كلّ صداقته السابقة .أحياناً يعذرهم،بالنسبة لهم هو إرهابي .أمّا بالنسبة للإرهابيين ،فهو ليس جديراً بهذا((الجاه)).إن لم يقتلوه ،فلأنهم كانوافي حاجة إليه ليس أكثر .كانوا يعانون من أزمة أطباء لمعالجة جرحاهم .حدث أن خطفوا طبيبا وجاوؤء به الى مخابهم ..لكنهم أعدموه بعد ذلك،اثناء محاولته الفرار.ما زال غير مصدّق أنّ من ظلّوا هناك سمحوا له بالنزول مع ((فوج التائبين)).لآخر
95
لحظة توقّع أن يطلق أحدهم النار عليه، فربّما دلّ الأمن على مخابئهم.. إن رجلاً يقتل يوماً أحداً لا بدّ أن يُقتل!
أعطاه ذلك الموعد الأمل في استعادة هُدى. لا يتوقّع أن تكون نسيته. على الأقلّ إكراماً للستّة أشهر التي قضاها في السجن ثمناً لحبّها. ما كان ليدرى لولا أنها من أخبرته بذلك عندما أطلق سراحه، بعد اعتقاله في حملة قام بها رجال الأمن على الإسلاميين في جامعة قسنطينة. فقد جاء أحدهم وقال لها شامتاً ((ماخليتكش تفرحي بيه)). لاحقاً فهمت أنّه وشى به زوراً حتى يُعتقل أيضاً. كان الشابّ يحبّها ولا يريد أثناء وجوده في السجن أن يتركها لغيره!
ما زال يُباهي بينه وبين نفسه أنّه دخل السجون بسبب شبهة عشقيّة غير معلنة! هل كانوا سيضربونه ويعذّبونه لو عرفوا أنّه مجرد عاشق ضحية مكيدة شاب لا ضمير له، لم تمنعه لحيته من الكيد لإنسان بريء؟ لكنّهم تمادوا، وهو الذي لم يتعاطف يوماً مع الإسلاميين، لفرط ما رآهم يُعذبون على أيدي الجيش، غادر السجن وهو إسلامي.
الآن وقد خبر كل شيء، يحتاج إلى إعادة إعمار روحه مما حل بها من خراب.
حتى الكلمات تتطلب منه إعادة نظر: ((الوطن))، ((الشهيد))، ((القتيل))، ((الضحيّة))، ((الجيش))، ((الحقيقة))، ((الإرهاب))، ((الإسلام))، ((الجهاد))، ((الثورة))، ((المؤامرة))،((الكفّار)): أتعبته اللغة. أثقلته. يريد هواءً نظيفاً لا لغة فيه، لا فصحى ولا فصاحة ولا مزايدات.
كلمات عادّية، لاتنتهي بفتحةٍ أو ضمّةٍ أو كسرةٍ.. بل بسكون.
يريد الصمت.
96
عبثاً كانت هالة وأمّه تحاولان استدراجه للبوح بما عاشه خلال سنتي غيابه. كان دائم التهرّب من الكلام. لا يحضر إلا بتوقيت الأخبار المسائيّة.
كلتاهما تعرفان أنّه ينتظر أن تطلّ هدى ليس أكثر. فعندما لا تكون هي من يقدّم الأخبار، يغادر عائداً إلى غرفته.
يتأمّلها.. يتفحّصها.. يقرأ أخبارها أثناء قراءتها للأخبار. يصل كلّ مرةّ إلى نتائج معاكسة، مرّة أنّها سعيدة وبالتالي يوجد في حياتها رجل. مرّة تبدو له يائسة ومحطّمة، ولا يفهم لماذا تصر إذاً على البقاء أمام الكاميرا.. لتعلن كل يوم اغتيال صحافي. لقد تجاوز عدد الصحافيين والمثقفين الذين اغتيلوا السبعين، وهي مازالت تنعى كل يوم أحدهم.. وماذا لو كانت هي الرقم التالي؟
كانت هذه الفكرة ترعبه أكثر. مايخشاه أن يحدث لها شيء ولا يراها أبداً. هل يُعقل أن يغيبها الموت؟ أن يغطي التراب عينيها الجميلتين، وجسدها الذي لم يلمسه يوماً.. وشفتيها اللتين هما كلّ ماقبَّل فيها؟
يقرر ككلّ مرة أن يطلبها في الغد.
ثم تكون الكلمة الأخيرة لعزّة نفسه. فهي تدري أنّه عاد، وبإمكانها أن تطلبه أن شاءت، لكنّها منذ شهرين لم تفعل.
كانت كوابيس موتها تلاحقه. لا يتوقّف عن تصور كل الاحتمالات التي يمكنهم اغتيالها بها، وهي متّجهة إلى التلفزيون أو عائدة منه مساءً. يحلم أنه جاثمٌ يلثم جسدها باكياً ومتضرعاً لله كي لا يأخذها منه. فلا شيء، لاشيء سواها يريده في هذه الدنيا.
97
ذات مساء، وهو يشاهدها على الشاشة، خطر بذهنه أن يهاتفها على المحطّة، حال انتهاء الأخبار. يريد أن يفاجئها!
كان المشكل وجود هاتف البيت في الصالون، وهو لايريد أن يتحدّث إليها على مسمع من هالة وأمّه. قرر أن ينزل ليطلبها من مقصورة هاتفية غير بعيدة من البيت. تذرّع بالنزول لشراء علبة سجائر.
في المقصورة، أخرج من جيبه رقم هاتف التلفزيون الذي أحضره قبل أيّام، مذ بدأت فكرة الاتصال ها تراوده. ظلّ رقم البدالة يدقّ لدقائق دون أن يرفعه أحد. ثم أخيراً ردّ صوت رجّالي. وجد نفسه يقول بارتباك:
-أود الحديث إلى الآنسة هدى. هل يمكن لو سمحت أن تخبرها أن علاء على الخط..
بدا الرجل على الطرف الآخر من الخط على حذر.. ردّ بعصبيّة:
-اطلبها غداً إن شئت!
راح يلحّ:
-أود أن أتحدث إليها الآن في أمر مهمّ.. ليتك فقط تخبرها باسمي.
ردّ الرجل:
-ولكنها مازالت على البلاتو، عليك أن تنتظر بضع دقائق وربّما أكثر.
ردّ مستجدياً:
-سأنتظر.. لكن وراسك لاتنساني ياخويا.
قال الرجل:
-ذكّرني باسمك.
98
-علاء.. علاء الوافي.. إنّي أحدثّك من الشارع، بالله لاتدعني أنتظر طويلاً.
مرّت أكثر من عشر دقائق. عاد الرجل ليخبره أنّ هدى أنهت أثناء ذلك بثها وغادرت على عجل، وأنه ما استطاع اللحاق بها.
لكن.. كان الخطّ مفتوحاً ولا أحد يردّ، سوى صوت طلقات رصاصٍ اخترق دويهّا سماعة المقصورة.
في اليوم التالي في انتظار الطائرة العائدة بها إلى بيروت، كان لها متسع من الوقت لتستعيد تلك التفاصيل كاملة، وتحزن مجدداً لأنه في سنة 2001 ما كان الهاتف الجوّال في متناول الناس في الجزائر، وإلا لما نزل علاء ليلاً إلى تلك المقصورة لطلب هدى. كيف له أن يدري أنه كان يتصل بالرقم الهاتفي للموت؟
نزلت دموعها. تلك التي احتفظت بها في سهرة البارحة. لربّما غيومها كانت تبحث عن ذريعة كي تهطل. لعلّه النجاح المفضي إلى الكآبة، أو لعّله الفقدان، فقدان كل رجالها، بمن فيهم ذلك الذي منحها بهجةً كاذبة، واختفى في هذا المطار نفسه الذي واعدها فيه يوم وصولها قبل أسبوع.
ظلت حتّى آخر لحظة تتوقع اتصالاً منه. الآن فقط بدأت تصدّق قلبها الذي يوشوشها أنّها لن تراه أبداً، وأنّ قدرها ألا تكون يوماً سعيدة. سعادتها كانت دائماً سريعة العطب، كأجنحة الفراشات. كلما حاولت الإمساك بألوانها، انتهت بهجتها غباراً بين أصابعها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق